سورية.. و«الفتنة الكبرى»

يعاود مفهوم الفتنة تاريخياً ظهوره في المنعطفات السياسيّة الحرجة للأمم، ويظهر في قواميس الصراع السياسي بوجهين متناقضين أشد التناقض، فتارة هو خطر حلول الفوضى محل الاستقرار، الفرقة محل الوحدة، والخراب محل البناء، والحكم الظلامي محل الحكم الصالح. وتارةً أخرى هوالسيف المسلّط على رقاب المظلومين لتسويغ حكم الظالمين، وذلك بإضرام نار الفتنة في ظلام العقول والنفوس، وإحياء صراعات التخلّف والحقد المذهبي والعرقي والإثني والعشائري...إلخ. والمشترك بين هذين النقيضين أن الفتنة هي في نهاية المطاف إحلال الثانوي محل الأساسي.

والأمثلة على كلتا الحالتين كثيرة في تراثنا السياسي القديم حينما كانت الفتنة هي التهمة الأيديولوجية لجميع من يتحرك ضد الحكام سواء من أبناء الطبقات السياسية الحاكمة نفسها الساعين لمصالحهم الخاصة، أو من الجماهير الثائرة المطالبة بحقوقها، كثورات الزنج والقرامطة...

 تعود الفتنة أيضاً كتهمة جاهزة في تراثنا الثوري الحديث والمعاصر، لتكون تعبيراً عن نكوص الأنظمة الحاكمة إلى أساليب قمع ترجع لأكثر من ألف عام، كتفجير الإسكندرية الذي حدث قبيل انتفاضة (25 يناير)، والذي تبين أن الداخلية المصرية هي من كانت خلفه لإثارة صراع إسلامي- مسيحي في محاولة لاستباق التفجّر الشعبي العظيم بتفجير طائفي من شأنه حرف مجرى الانتفاضة الثورية إلى اقتتال هزيل بين متطرفين صنّعهم نظام مبارك نفسه..! لكن الشعب المصري أظهر في هذه المرحلة وعياً سياسياً وطنياً وحضارياً بشكل نزوله للشارع، واعتماده الوحدة الوطنية كخيار في مواجهة الفتنة الطائفية..

وفي النظر إلى ما يجري في سورية اليوم، لا أحد يستطيع أن ينفي وجود قوى أصولية كامنة نشأت في الظلام، كنتيجة لغياب الحريات السياسية وتغييب دور الحركة السياسية في البلاد، والتراجعات الاقتصادية- الاجتماعية... والحقيقة أن تراجع مفهوم المواطنة جاء كنتيجة لتراجع دور الدولة، وفساد القضاء، وتراجع قدرتهما على تحصيل وحماية حقوق المواطنين، مما جعل الناس يلجؤون بشكل طبيعي إلى البنى التقليدية الطائفية والعشائرية والعائلية...ألخ.. التي تعود إلى ما قبل الدولة الوطنية.

لكن كل هذا لا يبرر أن يتم تخويف الناس بالفتنة لدرء نزولهم إلى الشارع، وأن يكون التلويح بالفتنة المذهبية أداة لتنفيس الاحتقان، وتفريغ مطالب الجماهير من مضمونها، واللعب على وتر وعي السوريين الوطني، المتبلور بشكله الحالي منذ أيام الثورة السورية الكبرى، وأن يتم الخلط المتعمد بين التظاهر والتحريض الطائفي، والادعاء بوجود قنّاصة «طائفيين»، وخصوصاً في المناطق التي تحوي بؤراً للتوتر بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، لتحويل هذا الادعاء إلى واقع، ومن ثم تجميع الناس في دوريات لملاحقة أشباح القناصة الذين أعلن القبض عليهم ولم يظهر بالمقابل أي أحد منهم على وسائل الإعلام الرسمي، هذا بالإضافة إلى الحديث عن شحنات الأسلحة التي أعلن عنها ولم تظهر.  

 فهذا ليس إلا كبتاً للاحتقان الاجتماعي، ودفعاً للأمور باتجاه الفتنة الحقيقية، لتتحول الكذبة إلى واقع يسمح لقوى الظلام والفساد بالظهور إلى مسرح سورية السياسي بعد غيابها عنه..

تصبح  القوى الظلامية أكثر جرأة في التعبير عن نفسها عندما يتناول الإعلام السوري المسألة بقليل من المسؤولية وكثير من الغباء في التصدّي لها، بما يجعله يعترف بها من حيث يدري أو لا يدري، فتظهر «الطوائف والفعاليات» كأركان هزيلة لوحدة وطنية متخيلة، بدلاً من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمواطنين الذين كانوا على الدوام دعامة وحدة وطنية حقيقية، ليتسلل ذلك المنطق إلى وعي بعض السوريين وأحاديثهم بشكل طبيعي، وكأنما هناك من يسعى لأن تصبح الطوائف هي الناطق الرسمي باسم الشعب السوري..

فما هي الفتنة الكبرى الآن في سورية؟؟ ومن يلعبها؟؟

هي فتنة من يستر عيوبه بها ويخوّف منها، ويصدّر نفسه فقط كصمام أمان وحيد لدماء السوريين من أن ينهشوا بعضهم بعضاً، مع الإبقاء على أزماتهم، وهم من دخل العالم منذ آلاف السنين دون جيوش وتعايشوا مع شعوبه  دون دماء..

الفتنة أشدّ من القتل.. والظلم أشدّ من الفتنة وبوابة لها..