ما قبل الحراك السياسي في سورية
يثور العالم العربي على ناهبيه وظلامه فتسقط بعض الأنظمة، ويهز عروش البعض، ويحبس معظم الباقي أنفاسه منتظراً ساعته الموعودة. وقد اكتشف السوريون بسرعة أنهم ليسوا «مستثنى بإلا»، خاصة وقد وجدوا أنفسهم فجأة في لجة الحدث، وأحسوا أن السيناريو الخاص بهم مختلف عما سواه..
ولاشك أن لهذا الاختلاف قصة مبهمة مكونة من تساؤلات كبرى لا تزال غائبة عن أذهان البعض، والذين استطاعوا التفكير بهذه الأسئلة لا تحضرهم الإجابة الآن.. ولعل أبرز هذه التساؤلات تتركز على ماهية الحدث السياسي الدائر حالياً ووصفه؟
تساؤلات مشروعة
يبدو السؤال محرجاً للبعض ومخيفاً للبعض الآخر وغير معروف الإجابة عند كثير من الناس، خاصة من يسمون اليوم بـ«الأكثرية الصامتة» إن صح التعبير، لكن الأكيد أن توصيف هذه المرحلة عملية دقيقة وصعبة وحساسة، فهي الأساس الذي سيحدد مسار الحراك اللاحق.
يظن البعض أن هذا الحراك سينتهي على وقع الإصلاحات الحالية بشكل مباشر، إلا أن هذا التصور وإن حصل فهو لا يعني نهاية الأزمة، كما أن استمرار الحراك بحجمه وشكله الحاليين سيظل دون النتائج المأمولة أيضاً. على كل حال يمكن وصف هذه المرحلة أنها مرحلة ما قبل الحراك السياسي وهو الغائب في العقود الماضية والمنشود اليوم والضروري والصحي لحياة البلاد وأهلها. و قد يستهجن البعض هذه الصفة عن هذه المرحلة، أي وصفها أنها ليست حراكاً سياسياً، بل هي ما قبله على الرغم من الفعل السياسي الممارس وهو استهجان مشروع، إلا أن هذا الاستهجان يغيب في طياته دوافع إحجام الكثير وتخوفاتهم من هذا الحراك، والذي من المفترض أن يكون حالة صحية لها صداها المنتظر.
لكن لا يمكن بالتأكيد إسقاط صفة الفعل السياسي عن المرحلة الحالية وتأثيرها بالمرحلة القادمة، وهنا يجب الانتباه إلى كل الإجراءات التي تمت و تتم خلال هذه المرحلة وماهية إفرازاتها اللاحقة، وما هي القضايا التي لم تثر خلال هذه المرحلة من كل الأطراف ولماذا؟! خاصة تلك الجهات ذات الصوت العالي سواء بالإعلام الرسمي أو الإعلام الخارجي، فعلى سبيل المثال «لم يتحدث أحد حتى الآن عن حلول جذرية وعملية للقضايا الكبرى المستعصية كالبطالة، توزيع الدخل، النهب»، لا بل يجري اعتبارها جزئيات تابعة لحزم الإصلاح المدعاة من كل الأطراف..
سمة المرحلة
تسير كل خطابات الإصلاح والتغيير بالتوازي مع وجود أغلبية لا صوت لها في غمرة الأحداث، يُظن أن خوفها من العلاج الأمني هو رادعها الأساسي، لكن على ما يبدو أن لها تخوفات أخرى مشروعة كالخوف على البلد من التدخل الخارجي، أو فقدان الأمان، أو دخول قوى غريبة عنها وعن مطالبها إلى الساحة مدعومة بنزعات طائفية قد تأخذ الحراك إلى المجهول، وخاصة بعدما جيشت بعض الأطراف المجهولة والمعلومة بهذا الاتجاه. الراجح حتى الآن أن صمت هذه الأغلبية ليس صمتا وحسب، لكنه موقف سياسي غير مؤطر، وهو ما يتوجب معالجته الآن وبالسرعة القصوى. إن فهم عمق هذا الموقف وأسبابه هو ضرورة بحد ذاتها، وهو تحدّ لكل القوى السياسية، فصوت الأغلبية الحاسم والحافظ من كل الانزلاقات الفوضوية لم يصدح بعد..
عمق المشكلة
تكمن المشكلة اليوم في الخيارات المطروحة من جانب كل الأطراف، والمبنية على رؤيتهم لهذه المرحلة أو على مصالحهم الضيقة، فهم يتصورونها أنها المرحلة الحاسمة التي تخلق إمكانية انتقال البلد إلى موقع متقدم في حل استعصاءاته الكبرى، وهنا علينا الانتباه إلى أن الحسم دون نطاق شعبي واسع حامل له ليس حسماً، وطالما أن التسارع الدراماتيكي للحراك على غرار ما حدث بالحالات المجاورة لم يتكرر في سورية بالشكل والكم نفسيهما، فهذا يوحي بوجود تفاصيل كثيرة غائبة عن موجبات هكذا حراك. ويعتقد أن هذا هو أحد نتائج غياب الحركة السياسية لفترة طويلة من جهة، ومن جهة أخرى وهي الأهم، فيعبر عن عدم نضج الصراع الأساسي إلى سوياته الضرورية، وهي العناصر الغائبة - أي عناصر الصراع الأساسي- في رؤية وحديث الناطقين الحاليين باسم هذا الحراك، والتي لم تعالجها الإصلاحات الموعودة أيضا. فقد اقتصر الحديث حتى اللحظة عن «قانوني الطوارئ والإعلام» دون الحديث عن البرلمان والرقابة الشعبية وآليات تفعيلها بشكل جدي، ولم يفكر أحد بقانون انتخابات نسبي يؤمن التمثيل الحقيقي لكل الناس، ولم يشر إلى النهب الكبير المعطل للحياة السياسية، والوضع الاقتصادي الاجتماعي الغائب الأبرز!! رغم أنه المحرك الأساسي، والقضية الوطنية والتي لا نعرف لماذا لا نسمع حسماً في اتجاهاتها!!
قد يرد البعض: أن هذه القضايا مؤجلة إلى ما بعد الإصلاحات أو مشمولة ضمناً، ولكن لكل موقف أساس، فهل المشاريع المعلنة كافية لطمأنة الناس على مستقبلهم ومستقبل وطنهم، على سبيل المثال «لم يتم تعديل الخطة الخمسية 11 والتي وضعتها الحكومة السابقة المذمومة بناء على توجهاتها الليبرالية التي انحازت إلى أصحاب رؤوس الأموال».
كما اتصف خطاب المتحدثين باسم الحراك الحالي بأنه أقل مستوى من طموحات غالبية الجماهير، وفئوي في بعض الحالات وشكلي في بعضها الآخر وعام في أغلبه فمثلاً تحدث البعض عن قانون الطوارئ والإعلام وحق الناس في التعبير والحريات، لكنهم لم يتحدثوا عن ارتباطها الوثيق والعضوي بالوضع المعاشي للناس وترديه، الناتج ليس فقط عن الفساد، بل عن تلاقي مصالح النهابين الكبار مع قوى الفساد في جهاز الدولة، لم يتحدثوا عن علاقة الشركات الكبرى بحياة الناس وعن كيفية نشوء الفساد وارتباطه الأساسي بحلقات النهب العالمية في الداخل والخارج، وتناسوا قاعدة من يملك البلد يحكمه، وأن الأدوات الأمنية تمثل حارساً لهذه المصالح في نهاية المطاف، وكف يدها الضروري لحياة الناس لا يعني مطلقاً تصفية هذه المصالح، فالحرية لا تجتزأ.
على الأرجح سيظل المشهد المشترك بين الخطابين هو عدم التفاف الناس حول أي منهما، وذلك لأن كلا الخطابين بنيا على قاسم مشترك وهو القصور المعرفي المقصود أو العفوي، والمتجلي في عدم الاستناد إلى الناس كلهم - الصامتين حتى اللحظة وإخوانهم الموجودين في الشارع- ومطالبهم التي تفرضها ضرورات الواقع الحالي، والتي لا تحتمل المساومة أو المراوغة أو التأخير...