أسامة دليقان أسامة دليقان

العنف والسلم بين التقدم والرجعية

إنّ تاريخ المجتمع البشري حتى اليوم هو تاريخ الصراع بين الطبقات الاجتماعية ذات المصالح المتناقضة، ويتجلى هذا الصراع بعدة أشكال، ومن هذه الأشكال العنف المباشر أو الصريح.

وتكتسب مقولتا العنف والسلم أهمية كبرى عند المنعطفات التاريخية التي تميز الأزمات التي تمر بها المجتمعات، ولا شك في أنّ الرأسمالية هي أكثر مراحل تاريخ البشرية عنفاً ودموية، والذي ترافق مع توسعها وزيادة تراكم الرأسمال. فمع بداية القرن العشرين دخلت الرأسمالية في مرحلتها العليا، أي الإمبريالية، وبدأت القوى الإمبريالية تخوض حروباً عسكرية واسعة هدفها الأساسي سيطرة الرأسمال على المناطق الغنية بالثروات، وفتح أسواق جديدة، ولطالما كانت الطبقات الدنيا المستغلَّة هي الوقود لهذه الحروب، وكانت الطبقات الحاكمة تخفي مصالحها الحقيقية في استخدام العنف، بأن تضفي على حروبها صفة الحرب المقدسة، ورفع شعار «الدفاع عن الوطن» مستغلةً المشاعر القومية عند الشعوب. هكذا كانت الحال مثلاً في روسيا القيصرية أثناء حربها مع اليابان في مطلع القرن العشرين، وفي الحروب التي شنتها القوى الاستعمارية الأوروبية الأخرى. وقد واجه البلاشفة هذا العنف الإمبريالي برفع شعار «السلم الفوري»، الذي كان هو السلوك الصحيح والتقدمي في تلك الظروف، وذلك لأنه يجنب العمال والفلاحين والجنود من أن يكونوا وقوداً للحروب الإمبريالية، التي لا تستفيد منها سوى الطبقة البرجوازية. هذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ حالة اللاعنف والسلم هي دائماً حالة تقدمية، كما لا يمكن اعتبار كلّ حالات العنف رجعية. فعلى سبيل المثال كانت الحرب الأهلية التي اندلعت في روسيا.. والتي اتخذت اصطفافاً طبقياً أمراً تقدمياً، لأنّ الصراع الطبقي كان هو التناقض الرئيسي الذي يحركها، وكان لا بدّ بالتالي من أن يكون تناحرياً وعنيفاً حتى يصل إلى الحلّ، هذا النوع من العنف التقدمي هو ما يسمى بالعنف الثوري، ونجد أمثلة أخرى على العنف التقدمي في المقاومة المسلحة التي مارستها وتمارسها حركات التحرر الوطني ضدّ الاستعمار والصهيونية.

أما حالات العنف الرجعي فنجد أمثلة عليها في الحروب الأهلية التي تقوم على أسس غير طبقية، مثل الدين أو الطائفة أو القومية أو العرق..إلخ، لأنّ هذا العنف لا يخدم إلا مصالح الطبقة العليا المستغلة بكافة انتماءاتها الثانوية، ولا يضرّ إلا الطبقات الدنيا التي تكون وقوداً لهذا العنف، ولذلك فإنّ كلّ عنف من هذا القبيل هو عنف رجعي يجب على كلّ من يدّعي أنه حرّ وتقدّمي إدانته والوقوف ضدّه، أياً كان من يمارسه ومهما كانت الحجج أو الشعارات التي تتخذ كمسوّغات له.

وبالمقابل فإنّ السِّلم أيضاً له أنواع، فهناك السلم الرجعي، الذي يقوم على أساس الاستكانة أو التراجع أو الإحجام عن خوض الصراعات التي لا بدّ منها من أجل تحرير الأوطان من الاستعمار، وبهذا المعنى يكون هذا السلم شكلاً من أشكال الاستسلام. وهناك السلم التقدمي، الذي يحافظ على الوحدة الوطنية للشعوب، والتي شرطها الموضوعي الأساسي هي أن تكون قائمة على أساس العدالة الاجتماعية، لذلك فإنّ التظاهر السلمي الذي يطالب بالحقوق الوطنية التقدمية، يصنّف في خانة السلم التقدمي، الذي يجب دعمه وإعطاؤه الحرية الكاملة، ولاسيما أنّه من النوع الذي يجنّب الشعوب الصراعات الثانوية التي يحاول أعداء الشعب والوطن من الخارج والداخل تأجيجها، في محاولة للدفع نحو التفتيت والتفكيك، وحرف البوصلة عن التناقض الطبقي الأساسي، الذي هو المشكلة الكبرى التي تحتاج إلى حلّ، ومعيار الوطنية والتقدمية في هذه المرحلة من التاريخ، إنما هو العمل على حلّ هذا التناقض بطريقة محددة وجذرية وواضحة، أي على حساب الطبقة البرجوازية الكبرى الكسولة والفاسدة، ولمصلحة الطبقات الشعبية الأوسع، ألا وهي الطبقات المنتجة والكادحة سواءً بسواعدها أم بأدمغتها.