«المضاربة بالتشاؤم».. (All in) في «بورصة» جنيف3!!
يخيّم على وسائل الإعلام الأساسية، المحلية والعربية والدولية، جو عام من التشاؤم إزاء ما يمكن للجلسة الحالية من جنيف3 أن تنتجه، وإزاء ما يمكن أن ينتجه هذا المؤتمر بمجمله. يبدو هذا التشاؤم واضحاً، ابتداء من طريقة التغطية الإخبارية إلى التقارير والحوارات التي تعدها القنوات المختلفة. ولا شكّ أنّ في أساس هذا الجو، التغذية المستمرة التي تقدمها تصريحات أطراف سورية متعددة على «جبهتي» الحكومة والمعارضة، وكذلك تصريحات قوىً إقليمية متعددة.
أول ما ينبغي الانتباه إليه في معالجة «التشاؤم» و«التفاؤل»، في قضية بحجم ونوعية الأزمة السورية، هو أنّ كليهما، أي التشاؤم والتفاؤل، موقفان سياسيان قبل أن يكونا تقديماً لفهم هذه الجهة أو تلك لمجريات الأمور ومآلاتها المتوقعة.. وعليه فإنّ ما ستقدمه هذه المادة هي قراءة عامة للموقفين، وما يكمن وراءهما من قوىً ورغبات، وقبل الدخول في هذا ينبغي لفت الانتباه أيضاً إلى نقطة مهمة أخرى تتعلق بطبيعة الملف السوري نفسه ضمن التوازن الدولي الجديد..
إذا كان الاتفاق النووي الإيراني قد عبّر بجانب منه عن تغيّر الواقع الدولي، وعن بداية نشوء شكل جديد للعلاقات الدولية مستند إلى تراجع أمريكي وتقدم روسي- صيني، فإنّ هذا الاتفاق نفسه لم يعبر عن هذا الواقع فقط، ولكنّه نتاج مرحلتين: فالشوط الطويل الذي قطعته إيران منذ ثمانينيات القرن الماضي والذي غدا واقعاً ملموساً بالوزن والنفوذ حتى قبل توقيع الاتفاق بسنوات، قد اكتمل (أو يكاد) تظهيره سياسياً واقتصادياً، بعد الاتفاق. أيّ أن توقيع هذا الاتفاق ليس تعبيراً صافياً عن ميزان القوى الدولي الجديد، بل تعبير عنه وعن تراكم طويل سبقه، وربما لهذا السبب تحديداً، كان مرور هذا الاتفاق أكثر سلاسة بكثير من حسم اتجاه حل الأزمة السورية ونوعية ذلك الحل.
بهذا المعنى، فإنّ الأزمة السورية، تكاد تكون أول تعبير صافٍ عن طبيعة ونوعية الخارطة السياسية والاقتصادية العالمية الجديدة، ولهذا السبب وغيره، فإنها نقطة الصراع الأكثر تركيزاً على المستوى العالمي، وهو ما سينتج «تشاؤماً» و«تفاؤلاً» كبيرين بطبيعة الحال..
«المتشائمون»
إنّ جردة سريعة لمن هم المتشائمون من جنيف3، (ولا نتحدث عن عموم الناس فهؤلاء بمعظمهم متفائلون أو راغبون بالتفاؤل على أقل تقدير)، تبيّن أن هؤلاء جميعهم أطراف ضالعة في الأزمة السورية، داخلية وإقليمية، وتبيّن أن غالبيتهم من المتراجعين، ما يعني أنّ تشاؤمهم هذا هو تعبير عن فشل قادم، ليس في حل الأزمة السورية حلاً سياسياً، ولكن فشلهم هم بالذات! والتشاؤم بهذا المعنى، هو تنبؤ بشبح الخسارة- خسارتهم، القادم، وهو مضاربة في بورصة مفسلة يلعبون بها بأوراقهم جميعها لعبة (سولد) أو (All in)..
«المتفائلون»
بمقابل ذلك فإنّ للمتفائلين مستنداتهم الواقعية التي يستندون إليها في تفاؤلهم، وهي كثيرة. بداية من التراجع الأمريكي البيّن، وصولاً إلى التوافقات ووقف إطلاق النار وشكل تمثيل المعارضة، ووضوح تقهقر المتشددين وخضوعهم المطرد للتوافقات.
إنّ في «جبهة المتفائلين» على المستوى الدولي، تلك القوى الصاعدة التي ستستفيد بشكل كبير من إيقاف وإنهاء النزعات الفاشية التخريبية العالمية، وفي هذه الجبهة أيضاً السواد الأعظم من الشعب السوري الذي بات واضحاً أمامه ومنذ وقت غير قصير أنّ الشكل الدامي والعنيف للصراع هو مطلب دائم لقوى التشدد والفساد الكبير. إنّ هؤلاء إذ يستندون إلى التوازن الدولي الجديد فإنّ القوى السياسية الجذرية التي تعمل على تمثيل تطلعاتهم، إنمّا تستند إلى ثقتها العالية بهم قبل أي شيء، وبحركتهم الشعبية التي ستجد أشكالاً شديدة التنوع لإعادة إظهار نفسها أقوى وأكثر تنظيماً ووعياً مما سبق.
الظرف الدولي الجديد يستطيع فقط أن يلجم القوى المحلية والإقليمية الممانعة لعملية التغيير الجذري، ولكنّه بذاته غير كافٍ لإنجازها، وظيفته هي تصفير محصلة التناقضات بين قوى الفضاء السياسي القديم، وبالتالي فتح الطريق أمام «الشعاع الثالث» أمام قوة الجماهير لتفعل فعلها المنظم والواعي على ساحة التاريخ.
إنّ من حق المتفائلين أن يتفاءلوا، ومن حق المتشائمين تشاؤمهم، فحل القضية السورية معني، ولا يمكنه إلا أن يكون معنياً، بتقديم نموذج جديد، وغير مسبوق، يعبر عن واقع دولي جديد. وإنّ آثار هذا «النموذج الجديد» ستفعل فعلها ليس في سورية فقط، بل وحتى لدى طرفي الصراع الدولي الأساسي نفسيهما!
إنّ فهم هذه الحقيقة يعني ضمناً أملاً كبيراً بشكل ونوعية النموذج الجديد، ويعني أيضاً مسؤولية كبرى ستلقى على عاتق الشعب السوري وقواه الجذرية، هذه القوى التي تعبر الآن، محقّة، عن تفاؤلها الشديد..