الحل الوهمي والحل الحقيقي

الحل الوهمي والحل الحقيقي

دخل إلى التداول بشكل واسع خلال الأيام القليلة الماضية مصطلح الفيدرالية، باعتبارها أداة لتحديد معالم سورية المستقبل، وشكل الدولة السورية اللاحق، فهل حقاً يصلح هذا النموذج لبلد مثل سورية؟ 

 

الطرح ليس جديداً كما يشاع، وإن ارتفع مستوى الترويج له خلال الأسبوع الفائت من خلال ألاعيب إعلامية، فمنذ تفجر الأزمة السورية، كان الخطاب الإعلامي المواكب للأزمة يتحدث عن السوريين، وكأنهم مجرد مجموعة طوائف وقوميات وأديان ومذاهب، وحاولت الكثير من وسائل الإعلام توصيف الصراع الدائر في سورية على أنه صراع طائفي، أوقومي، وترافق ذلك مع نشر خرائط دويلات افتراضية متعددة، على أنقاض سورية الحالية، بين الفينة والأخرى، من قبل مراكز أبحاث، وجهات استخباراتية غربية، وأمريكية على وجه الخصوص، ولم يخلُ المشهد من تصريحات جهات رسمية، وشبه رسمية، غربية في السياق ذاته، وجرت أيضاً خلال سنوات الأزمة مساعٍ كثيرة لتسويق مثل هذا الخطاب الإعلامي، واللعب عليه، ضمن محاولات إعادة صياغة الوعي الاجتماعي، بما يتوافق مع المشاريع الدولية الخاصة بالمنطقة. 

لماذا الآن ؟

بعد سنوات من تناقض المواقف والصراع، والكباش والمكابرة المحمولة على محاولات «الحسم والإسقاط»، فرض الواقع الموضوعي خياراته، وقال التوازن الدولي الجديد كلمته، فأطاح بالأوهام كلها، وانتصر خيار الحل السياسي، وتصدر واجهة الأحداث، وأقرت القوى السورية والإقليمية والدولية كلها رسمياً به، لاسيما بعد أن تشرعن بسلسلة قرارات دولية وافقت عليها أطراف الميدان، لتتوج بقرار وقف العمليات العدائية، وبدأ العمل الملموس على طريق الحل..الإقرار بالحل السياسي لا يعني أن الصراع في سورية وحولها قد توقف، بل إن هذا الإقرار هو الخطوة الأولى نحو تغيير شكله العسكري الوحيد، إلى مستوى جديد يجمع بين العسكري والسياسي، بحيث يكون العسكري له هدف محدد وملموس – محاربة الإرهاب- أي أنه وضع ضمن مساره المطلوب، وخرج عن كونه مجرد صراع على السلطة، وتحديداً بعد بدء الضربات الجوية الروسية حيث بات في خدمة الحل السياسي بين السوريين، وعلى أثر ذلك كلها بدأت تظهر ملامح شكل جديد للصراع تتعلق بسورية المستقبل، ليس نظامها السياسي فحسب، بل بنية الدولة السورية نفسها، وربما خريطتها الجغرافية عند البعض،  وعليه يمكن القول، إن الفدرلة بهذه الصيغة، يمكن أن توظف كإحدى محاولات الالتفاف على الحل السياسي، الذي لم تعد القوى المختلفة قادرة على التملص منه، وتجاهله، أو على الأقل هي محاولة لعرقلته، وتسويفه وتأجيله.

الفيدرالية سورياً؟

إن طرح فكرة «الفدرلة» في هذا التوقيت، من شأنه أن تنفخ الروح في العصبيات الطائفية والقومية والدينية والمذهبية كلها، وأن تمدّ النخب المختلفة بجرعات جديدة، من التشكيك بالآخر، والانعزال، والمزيد من الشحن على أساس طائفي أو قومي، وبالتالي إيجاد مبررات للبحث عن حلول جزئية تخص هذا المكون أو ذاك، وهذا ما يعني عملياً «اللاحل»، مما يعني فسح المجال أمام المشاريع الدولية في إعادة رسم خرائط المنطقة عبر المزيد من التدخل، الذي استجر ويستجر على الدوام المزيد من التعقيد وخلط الأوراق، بمعنى آخر تعني ترك الأبواب مفتوحة أمام عملية التقسيم. 

إن عملية التقسيم ليست مجرد رسم خرائط جديدة، بل هي فاتحة لصراعات جديدة، وعمليات تهجير ونزوح، ومجازر، كما تؤكد التجارب التاريخية كلها، مما يعني بالضرورة الدخول إلى دوامة أزمات جديدة، ستبقى خلالها الكيانات الجديدة في حالة تهديد دائم، وعدم استقرار.

إن «الفدرلة» تتناقض مع الواقع الموضوعي التاريخي، واستحقاقات الظرف الموضوعي الراهن..

*تاريخياً: لا يوجد مكوّن ديني أو قومي أو طائفي في الدولة السورية، منعزل عن البنية الديمغرافية السورية، لا بالمعنى الجغرافي، ولا بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي السياسي، بل على العكس تماماً شهدت تجربة الدولة السورية الحديثة منذ تكونها، عمليات اندماج واسعة، رغم الملاحظات كلها التي تسجل على شكل هذه الدولة، والنظام السياسي وضرورة إحداث تغييرات بنيوية عميقة فيهما.

* ومن جهة استحقاقات الظرف الموضوعي الراهن، لم يعد للكيانات الصغيرة، والدول المترهلة، حظ في عالم يتجه نحو الاندماج، والتكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، عالم يتجه موضوعياً نحو بنية جديدة في العلاقات الدولية، قائمة على التكافؤ والندية، الأمر الذي يتناقض مع إمكانات الدولة الكانتونية الصغيرة، وعليه فإن التقسيم بمستوياته المختلفة، وإن كان يتمظهر على أنه  هروب من المأساة التاريخية في كنف الدولة الوطنية، هو في الوقت نفسه دخول إلى مهزلة تاريخية جديدة، فلا هو يؤمن الحقوق، ولاهو يؤمن الاستقرار، وهو حكماً يعني المزيد من التبعية، مما يعني إغلاق الطريق أمام التطور الحضاري الموضوعي، وبمعنى آخر إن منطق التفتيت ضمن الظرف الراهن هو منطق رجعي ماضوي، لاسيما وإن الفدرالية بصيغتها الكلاسيكة، هي حالة اتحاد بين كيانات وبنى دولتيه قائمة أصلاً، ويمتلك كل منها، مبررات ومقومات وجود وديمومة واستمرار، وليست عملية تفكيك وتركيب، في سياق تجارب الهندسة الاجتماعية.

إحدى نقاط الانطلاق في فتح هذا الملف مجدداً تبدأ من الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الكردي في اتفاقيات سايكس بيكو، في عموم بلدان المنطقة، ورداً على استمرار إنكار وجود شعب كردي له قضية قومية معلقة على جدران أزمات التاريخ المعاصر.

من نافل القول، إن العالم يمر بمرحلة انعطافية جديدة، وإن المجتمع البشري بكل بناه الاقتصادية والسياسية والجغرافية والثقافية على أبواب تغيرات تاريخية كبرى، ولاشك أن الشعب الكردي الذي دفع ثمناً باهظاً في اتفاقات سايكس بيكو 1916، وما نتج عنها من كيانات، يجب أن يكون الانعطاف الراهن بداية مرحلة تاريخية جديدة بالنسبة له، من جهة الاعتراف بوجوده وحقوقه كأحد مكونات النسيج الديمغرافي في  العديد من بلدان الشرق، ومنها سورية.

 فرض التطور الدراماتيكي للأزمة السورية، والمأزق التاريخي الوجودي الذي تمر به سورية، أن تطرح القضايا كلها على جدول الأعمال، بحيث لا تبقى أية قضية خارج دائرة النقاش، وذلك كإحدى خاصيات أزمات تاريخية بهذا المستوى، وإذا كانت العديد من هذه المصطلحات ملتبسة ومنها الفدرالية، فإن ذلك لايبرر ولا يعني أن يتم تصوير الأمر وكأن الأزمة السورية بدأت من طرح هذه الفكرة، أو تنتهي عندها، وتوظيفها باتجاه المزيد من الشحن القومي، و«تغطية السموات بالقبوات»، فالسؤال الكردي في سورية، هو سؤال مشروع حين البدء بتحديد معالم سورية المستقبل، والإجابة الصحيحة عليه، هي مهمة وطنية سورية عامة، عنوانها العريض توفير الإطار الدستوري والقانوي والواقعي الذي يمنع استمرار سياسات التمييز القومي على مدى عقود، ومعالجة عمليات التهميش المزمنة التي عانت منها المنطقة الشمالية والشمالية الشرقية على صعيد التنمية الاقتصادية، ولكن في الوقت نفسه يجب ألا تصبح المسألة الكردية بأية حال من الأحوال، بوابة جديدة للتوتير، وأداة لإجهاض الفرصة التاريخية التي توفرت للسوريين – كل السوريين- في إخراج بلادهم من الدوامة التي تكاد أن تغرق فيها، والذهاب إلى الحل السياسي، كممر إجباري لعملية تغيير وطنية ديمقراطية جذرية عميقة وشاملة، تؤمن حقوق جميع السوريين على أساس توافقهم، وبما يؤمن الحفاظ على وحدة البلاد.

فيدرالية أخرى..

وإذا كان هناك من ضرورة، إلى تغيير الخرائط، فانها يجب أن تذهب باتجاه آخر، وتحديداً نحو تشكيل فيدرالية شعوب الشرق، لاسيما وإن هذه الفكرة تمتلك عوامل عديدة للنجاح، فمن جهة، تنتمي شعوب شرق المتوسط إلى فضاء جغرافي واقتصادي وسياسي وقيمي واحد، يوفر الأسس الموضوعية لمثل هذا الاتحاد، ومن جهة أخرى تتقاطع هذه الفكرة مع مصالح واستراتيجيات القوى الدولية الصاعدة في بناء عالم جديد، ينهي نظام التبعية للمركز الغربي، الذي كان على الدوام عائقاً أمام التطور الحر لشعوب ودول العالم، دون الذهاب إلى الأشكال التقليدية للفدرلة التي ستكون عائقاً أمام الفدرالية الواسعة التي تستطيع أن تؤمن حقوق الجميع في ظل تعقيدات وتناقضات العالم المعاصر.