تركيا.. تغيير الدور الوظيفي.. والاحتمالات المفتوحة

تركيا.. تغيير الدور الوظيفي.. والاحتمالات المفتوحة

كالمستيقظ من غفوة، استنفر النظام التركي بكل قواه، وأعلن وعلى نحو متزامن وبدفعة واحدة الحرب على أكثر من جبهة، بين حرب ناعمة.. وحرب سلاح، حرب على داعش؟ وحرب على حزب العمال الكردستاني، والإلحاح في الدعوة إلى التدخل في سورية مع تحشيد قواته على الحدود..

مواجهة في الداخل مع التيارات السياسية الرافضة لسياسة حكومة أردوغان...، في الوقت الذي كان قد سبق ذلك انفتاح ما على القوى الدولية الصاعدة وبشكل خاص روسيا والصين وتحديداً في ملف العلاقات الاقتصادية... سلوك طرح على بساط البحث، السؤال عن خلفيات هذا التمادي التركي، ومآلاته، ودوره في الملفات الإقليمية، وتأثيره على الوظيفة والدور التركيين لاحقاً، وموقع ما تبقى من تركة الإسلام السياسي في المعادلات الدولية اللاحقة... وصولاً إلى مصير تركية نفسها..  

 بعد أن ترسخ التوازن الدولي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية، باتت الدولة التركية أحد هوامش منظومة رأسمال المال عالمياً، من خلال تبعيته الاقتصادية، وانخراطه في حلف الأطلسي، وذلك ببنية سياسية ذات قالب أيديولوجي اتسم عموماً بالنزعة القومية الشوفينية، ساهمت بانعزالها الإقليمي نسبياً، وخصوصاً بعد تصاعد دور حركات التحرر في المنطقة... ولعبت تركية خلال تلك المرحلة دوراً وظيفياً، ضمن الأهداف العامة للمشروع الغربي باعتباره الشرطي الأمريكي في المنطقة، حيث كانت هذه الدولة، محور العديد من الأحلاف الاستعمارية في المنطقة... 

وظيفة تركية..

في ظل حكم «الاسلام المعتدل»

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تصاعد دور ما سمي بالإسلام السياسي، وتغير بالتدريج وما زال الإطار الايديولوجي للدولة التركية لصالح بنية أوسع، هي البنية الدينية، مع الاستمرار في التبعية لمنظومة الرأسمال المالي العالمي، وأصبحت تركيا القاعدة التي تم الترويج منها لما سمي في حينه بالإسلام المعتدل، لتملأ نسبياً الفراغ الذي حصل، بعد أن حاول المركز الرأسمالي العالمي التخلي عن التنظيمات الجهادية بانتهاء وظيفتها التقليدية بمحاربة الاتحاد السوفييتي، والتي انتشرت كالفطر على مزبلة بلدان الرأسمالية الطرفية التابعة، بعد أن فعل البترودولار السعودي ما فعل... وتدفقت في هذه الفترة  استثمارات هائلة إلى السوق التركية، تم توظيف البعض منها في البنى التحتية، والإنتاج الصناعي والزراعي، واتبعت الحكومة التركية سياسة صفر مشاكل مع الجيران، وأصبحت كل دول الجوار سوقاً للبضائع التركية، و اعترف الساسة الأتراك بوجود القضية الكردية في تركية، حيث تم السماح بالتحدث باللغة الكردية، وبث فضائي رسمي باللغة الكردية وارتفعت معدلات النمو بوتائر مرتفعة لتصل إلى 7 بالمئة، وتصاعد دور الطبقة الوسطى في بنية الدولة والمجتمع التركيين لتكون قوة توازن اجتماعي وسياسي... 

 

تركية بعد أزمة 2008    

كحال كل بلدان الرأسمالية الطرفية، كان من الطبيعي ألا تبقى تركيا خارج دائرة التأثير والتأثر المتبادل، على أثر الأزمة الرأسمالية العالمية التي توضحت منذ عام 2008، وتقدم دور الثنائي الروسي الصيني، بالمعنى الاقتصادي من جهة، وبمعنى الدور والوظيفة من جهة أخرى،  

على هوامش الصراع بين القطبين، تصاعد دور المراكز الإقليمية، ومنها تركية، وكان من أبرز تجلياتها الاستثمار في الأزمة السورية بأكثر الأشكال خسة، حيث كانت من القوى الإقليمية التي ساهمت بتعقيد الأزمة أكثر فأكثر، كونها طريق عبور ورعاية الجماعات التكفيرية المسلحة، وبالإضافة إلى ذلك حاولت اللعب خارج حلبة التوازن الدولي الجديد، بأن تكون راعية المنطقة الآمنة التي طالما دعت إليها، الأمر الذي لم تعد تسمح به التوازنات الدولية الجديدة، وهذا ما دفع واشنطن إلى ترويض حليفه التركي، ومنعه من القيام بهذه الخطوة..

ما بعد الانتخابات البرلمانية

كانت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة إشارة واضحة إلى أن تركيا مقبلة على تطورات جديدة، فالانكفاء النسبي للإسلام السياسي، وصعود قوى تركية أخرى لها خيارات مختلفة عن الخيار الإخواني المنكفئ إقليمياً، وجموح أردوغان، وطموحه إلى لعب أدوار تفوق طاقة تركيا، وحل الملف النووي الإيراني، والاهتمام المتزايد بالقضية الكردية، وتراجع النمو الاقتصادي إلى 3 بالمئة، وضع شهر عسل الإسلام السياسي في طريق مسدود، وبات أردوغان يناور بين قوى عديدة، وخيارات مختلفة، فهو من جهة مضطر أن يراعي رغبة التيارات الدينية المتطرفة، التي تستمد قوتها من نفوذ الدولة العميقة كذراع فاشي من جهة، والقوى الصاعدة في المشهد السياسي التركي الممثلة لمصالح البرجوازية التقليدية من جهة أخرى، ودولياً بين الحليف التقليدي الأمريكي المتراجع والذي يضطر أن يوسع تحالفاته حتى في المجال الحيوي التركي نفسه من جهة، والقوى الدولية الصاعدة من جهة أخرى... وإقليمياً بين استمرار الحرائق في دول الجوار التركي وبين الذهاب إلى الحلول السياسية ..

القضية الكردية وزن نوعي.

منذ تشكل الدولة التركية كانت القضية الكردية أحد عوامل التوتر الداخلي، حيث لم تعترف النخب التركية الحاكمة بوجود قضية كردية اصلاً، وإلى أمد قريب كانت تسمي الأكراد ب«اتراك الجبال»، وفي فترة محاولة تسويق فكرة التيار الإسلامي المعتدل وتعميمه على دول المنطقة، حاولت الطبقة السياسية الحاكمة مقاربة هذه المسألة من زاوية جديدة، وصلت إلى حد إطلاق مبادرات لحل القضية وخصوصاً بعد دعوات الزعيم الكردي عبد الله أوجلان بإلقاء السلاح منذ سنوات، وتخليه عن حلم تشكيل الدولة... ولكن مع تغيير الوظيفة وكما يبدو فإن كل محاولات إمكانية حل الملف الكردي، يمكن أن تأخذ مساراً آخر، حيث بدأت حرب فعلية منذ ما يقارب الأسبوعين بين الطرفين، والكثير من المؤشرات تشير الى تصعيد متزايد، هذا الموقف التركي تجاه الأكراد في الداخل التركي تناقض مع الموقف الدعائي التركي من الملف الكردي في دول الجوار.. 

مواقف متناقضة

 كانت الحكومة التركية قد خطت خطوات لافتة على طريق التعامل مع الفيدرالية التي أعلنها الاكراد في كردستان العراق، وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها، وفتحت قنصلية لتركيا في أربيل، وتبادلت مع سلطات الإقليم مختلف العلاقات الاقتصادية والثقافية، وبالإضافة إلى ذلك  كان أحمد داود أوغلو قد صرح في فترات سابقة بأن تركيا لا تمانع في أن يحصل الكرد على حقوقهم القومية في سورية «ضمن وحدة سوريا واستقلالها»، وتكرر هذا القول مرات عديدة من داود أوغلو في محاولة بيع الأوهام لبعض قوى المعارضة السورية..؟؟ وبناء على هذه المواقف المتناقضة يمكن الاستنتاج وببساطة، بأن المحرك في الاهتمام التركي بالملف الكردي دائماً كان ضمن محاولة جعله ورقة ضغط لابتزاز القوى المنافسة في الداخل من جهة، والضغط على دول الجوار من جهة اخرى..  

ماذا عن «المعلم الكبير»؟

تتعدد الآراء حول خلفية الجموح التركي الأخير حيث يذهب بعض المحللين إلى عقد ما يشبه الصفقة بين واشنطن وأنقرة لمقايضة داعش بحزب العمال الكردستاني، حيث يخشى أردوغان صاحب الأوهام الامبراطورية أن يزداد التقارب بين خصمه التاريخي «حزب العمال» وحليفه التقليدي «الولايات المتحدة» على حساب تركية، فبعد محاولة الاستثمار في وجود داعش ودوره سورياً وعراقياً، بدأ الاستثمار في الحرب المزعومة على داعش، لتشمل المحاولة في طريقها حزب العمال الكردستاني أيضاً، هل سيصدق هذا الافتراض، ويصبح الأكراد كبش فداء التجاذبات الإقليمية والدولية مرة أخرى؟ سؤال سنجد الإجابة عنه بالملموس في الأشهر القريبة القادمة؟ أم ستأخذ المشكلة مساراً آخر، أي خيار القوى الفاشية وأذرعها في المنطقة داخل النظام التركي وخارجه، وتحديداً الفوضى الشاملة التي تطال الجميع بما فيها الدولة التركية، بما يعني ذلك من شلالات الدم، بهدف إشغال تلك القوى الصاعدة «روسيا» من حدودها الجنوبية كهدف أساسي للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة؟ أم أن كل ما يقوم به أردوغان وبطانته السياسية هو مجرد زوبعة إعلامية، ولعب في الوقت الضائع للحفاظ على ماء الوجه، مقيدة بالتوازن الدولي الجديد، وغير قادرة على على إحداث تغيير نوعي لاحق في مسار الأحداث؟ 

بغض النظر عن أي من الخيارات السابقة ستفرض نفسها، بات في حكم المؤكد بأن تركيا بدورها الوظيفي التقليدي المرسوم لها من قبل المركز الامبريالي قد انتهت، وأمامها خياران لا ثالث لهما:

• إما القبول بقانونية التوازن الدولي والانخراط في الحلول الساسية لملفاتها الداخلية، وبالدرجة الأولى القضية الكردية على اساس الاعتراف بحق تقرير المصير، والملفات الإقليمية وبالدرجة الأولى الملف السوري، والكف عن دعم جماعات الإرهاب الديني بتسمياتها المختلفة. 

• أو التماهي مع القوى الفاشية العالمية، الأمر الذي يعني من جملة ما يعني إنهاء تركية كدولة.