بداية إنهيار الاستعمار الجديد!
يسهل القول أن ما بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني ليس كما قبله، لكن ما سيصعب رصده هو تلك الآثار المتعددة الجوانب، والتي تتسع آفاقها لتطال جذور النظام العالمي القائم، ليس ببنيانه السياسي وحسب، بل بركائزه الاقتصادية التي قامت على الهيمنة الإمبريالية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، والتي فرضت الاستعمار الجديد في العديد من بقاع العالم.
لقد قامت الهيمنة الإمبريالية على أساس منظومة من الأسس الاقتصادية، كان أحد أبرزها (التبادل اللامتكافئ)، والذي لا يمكن تفسير الهيمنة الاستعمارية الاقتصادية الجديدة إلا من خلاله، فعلى أساسه يتم شفط المليارات من الفوائض الاقتصادية بشكل مستمر لمصحلة الدول الإمبريالية، على حساب الدول المُهيمن عليها. وبالتراكم المستمر لهذه الثروات يصبح الخروج من الهيمنة أمراً غاية في الصعوبة، وهو ما لا يمكن الخلاص منه إلا بكسر آلية (التبادل اللامتكافئ) عبر التنمية المستقلة، وهو ما وضع الاتفاق النووي الإيراني أساسه بين يدي شعوب العالم المضطهد.
فمنذ لحظة توقيع الاتفاق النووي بات الأساس المادي لكسر الهيمنة، وتأمين التنمية المستقلة في القرن الواحد والعشرين أمراً مقضياً، فحصول دولة (عالم ثالث) على التكنولجيا النووية لا يسمح لها بالخروج من عبائة الاحتكار الدولي لأحد أهم تكنولوجيات العصر، بل سيجعل منها نموذجاً للاستقلال الاقتصادي الوطني عن الاستعمار الحديث، كما أن انتزاع إيران لحقها بتصدير الماء الثقيل، والذي يعد المادة الرئيسية في إنتاج الطاقة النووية، سيؤمن مدخلاَ حقيقياً لخروج دول العالم المضطهدة من الهيمنة والاحتكار الدولي هي أيضاً.
إن هتك إحدى آليات النهب الإمبريالي التي أمنها الاتفاق هو نقطة تحول ذات إشعاعات مختلفة، ففي بعدها الاقتصادي بروز عوامل بناء النماذج الاقتصادية للتنمية المستقلة في القرن الحالي. كما ستوضع العديد من آليات النهب الاقتصادية الأخرى التي تقوم عليها الإمبريالية على المحك، وعلى رأسها التقسيم الدولي للعمل الذي فرض على الدول المضطهدة تخصصاً قسرياً في إنتاج المواد الخام، ومنح ميزة الإنتاج التكنولوجي المتطور للدول الإمبريالية بشكل مستمر، ما جعل الدول المضطهدة تدور في دوامة التخلف المستمر.
لا شك في أن ما سينتج عن ذلك من تغيرات في الأوزان الاقتصادية لتلك الدول، وعلى رأسها إيران، سيجعل مآلات الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة والمتعمقة، أشد وطأة على الدول الإمبريالية، والتي لا تزال تأن في أزماتها الاقتصادية المختلفة، فمن اعتاد الخروج من أزماته الاقتصادية بالاعتماد على توسيع آليات النهب، سيغدو أضعف حيلة بعد أن ضُرب أبرز آليات نهبه في العمق.
لن يتوقف إشعاع ضرب (التبادل اللامتكافئ) عند هذه الأبعاد، فرجع الصدى في مجال الصراع السياسي الدولي سيكون أشد وطأة، وطالما أن آليات النهب الاقتصادي الاستعماري فرضت نظاماً سياسياً دولياً مركزه واشنطن، فإن ضرب هذه الآليات يفعل فعله في النظام السياسي الدولي، فمع صعود دور دول البريكس وتراجع الغرب الإمبريالي بفعل أزمته الاقتصادية نشأ توازن دولي جديد، ولولاه لما فُرضت حلولٌ سلمية على ملفات الصراع الدولي، جاء أبرز نتائجها الاتفاق النووي الإيراني، والذي بدوره سينعكس على التوازن مرجحاً كفة الدول التي تبتعد بشكل متسارع عن المراكز الإمبريالية المهيمنة.
لا يمكن بعد كل ذلك إلا بالقول صراحةً أننا الآن أمام بداية إنهيار الاستعمار الجديد، فالظروف تنضج تباعاً لذلك، وعلى أساسه يمكن التنبؤ العلمي بحلول جذرية تؤمن مصالح الشعوب في الملفات المختلفة، وعلى رأسها الحل السياسي في ملف الأزمة السورية، فالآفاق التي يفتحها هذا التقدم (الاقتصادي- السياسي) يسمح اليوم بالقول أن الشعوب على موعد مع إنتصارات كبرى فيما لو تأمنت الإرادة السياسية للهجوم على تخوم الإمبريالية في كل المجالات، وها قد فعلها الإيرانيون وحلفائهم.