القوى الإقليمية على إيقاع التوازن الدولي الجديد
مراد جادالله مراد جادالله

القوى الإقليمية على إيقاع التوازن الدولي الجديد

من المضحك اليوم سماع مقولة كمحاولة سعودية لرشوة روسيا لتغيير موقفها من الأزمة السورية، كما أنه من المضحك أكثر ما يتناوله البعض حول رفض سعودي لتغيير موقفها من الأزمة السورية بعد اللقاء مع الروس، فكلا المقولتين تنمان عن جهل في قراءة انعكاس الميزان الدولي الجديد على الدول الإقليمية.

فمن المعروف أنه وفي لحظة ما من التوازن الدولي الصفري (لاغالب ولا مغلوب) بين القطب الصاعد المكثف بدول البريكس وتحالفاته والداعي للحلول السياسية، والقطب المتراجع أي الغرب بزعامة الولايات المتحدة والعاملة على مزيد من الاشتعال والإحراق، كان لبعض الدول الإقليمية صولة ما في الإقليم توهم بها كثر أنها قادرة على إعاقة أي حل سياسي، وتحديداً الحل السياسي في سورية، وبالتالي ضرب أولى تمظهرات الميزان الدولي الجديد وعدم الاعتراف فيه، لا بل توهم البعض إمكانية قدرة هذه الدول على المبادرة بمغامرات عسكرية لوحدها، فسرعان ما تبين قصر كل تلك الرؤى.

بين إيران والسعودية

على ذلك حاجج كثر بعدم نضوج ظروف الحل السياسي طالما أن أطرافاً كالسعودية وتركياً وإيران لا تزال خارج إطار هذا التوافق. من هنا أخذت حتى الدول الإقليمية وقتاً مستقطعاً برزت فيه كعناصر فاعلة تقرر أو ترفض أو تحدد مسار حل ما في أزمة تم تدويلها كالأزمة السورية، ضاربة بعرض الحائط ما يعنيه التوازن الدولي الجديد، والذي لا يمكن أن تكون في أية دولية إقليمية مؤثرة على ملف ما من ملفات الصراع الدولي دون استنادها على ذلك الميزان وتغيراته.

ولتدقيق انعكاسات التقدم المؤقت أو الاستراتيجي للدول الإقليمية ينبغي تمييز تلك الدول التي تربطها علاقة بالقوى الصاعدة كإيران على سبيل المثال، عن تلك الدول التي تستند إلى الحلف الغربي المتراجع كالسعودية وتركيا. بناءً عليه كان لإيران حظٌّ أكبر في التأثير بالملفات الإقليمية وحتى الداخلية لبعض الدول، فكان الدور الإيراني في اليمن أكثر تأثيراً رغم أنه لم يعتمد أسلوب التدخل المباشر كما فعلت السعودية، والتي ما فتئت تستند في تحالفاتها إلى الميزان الدولي السابق التي كانت الولايات المتحدة تلعب فيه دور المهيمن.

الوضع الجديد

من الواضح أن ترتيبات جديدة في الإقليم متوافقة مع الميزان الدولي الجديد تتم الآن، وهي بالتأكيد ليست وليدة اللحظة، إلا أن الفاصل الزمني بين التغيرات الدولية الكبرى وتجلياتها على الأرض هو من طبيعة الأمور. وبشكل واضح إن أي دولة إقليمية ستتلكأ عن تأمين حد ما من العلاقة مع القوى الدولية الصاعدة ستكون في آخر الركب، أي أنها ستكون عرضة انفجار التناقضات المرتبطة بالميزان الدولي السابق.

بناء عليه نجد أن التحول المصري تجاه استعادة علاقة جدية مع الروس كان مسعىً هاماً لوضع مصر على الطريق الصحيح في الخارطة الدولية الجديدة، كما كان وضع وإيران ودورها المتصاعد في الإقليم، ودفع حل ملفها النووي بطريقة مشرّفة هو باكورة انعكاسات تغيرات الميزان الدولي.

لحاق سعودي-تركي بالركب!

بالنسبة لباقي القوى الإقليمية والتي ظلت عبثاً تحاول استغلال لحظة الكباش بين المعسكرين الدوليين لترغي وتزبد ظناً منها أنها قادرة على ملئ الفراغ أو على لعب دور ما، وإن كان مؤقتاً فإنها باءت بفشل واضح. النموذج السعودي كان فاقعاً بهذا الصدد، حيث جاءت زيادة مستوى التدخل السعودي في سورية والعراق، ولاحقاً في اليمن ثمرة وهم اللحظة، فالتورط في سورية والعراق جعل السعودية أكثر تسربلاً بالقوى الفاشية، وفي الوقت الذي يتحضر فيه الجميع للحل السياسي كان الأداء السعودي نشازاً.

 يضاف إلى كل ذلك ما جره التدخل السعودي العسكري المباشر في اليمن عليها من مخاطر استراتيجية قد تكون أقلها خسارة عسكرية أمام القوات اليمنية، وقد تصل إلى خسائر اقتصادية كبرى، ناهيك عن توترات أمنية داخلية بدأت بإعلان تنظيم داعش لتفجيرات في السعودية، وقد لا تنتهي إلا بعد أخذ السعودية إلى المجهول، كما أن تراجع الدور القطري السريع هو خير مثال على تحولات أوزان تلك الدول. 

طبعاً لا يسعنا هنا إلا أن نلفت الانتباه إلى أن التنبه السعودي المتأخر إلى هذا الوضع دفعه وبشكل متسارع إلى فتح العلاقة مع الروسي. هناك، حيث يتكثف دور القوى الصاعدة ويتبلور دور القوى التي ترحب بالميزان الدولي الجديد، طبعاً كان قد سبق هذا التحرك بحث سعودي دؤوب عن أي مخرج من المستنقع اليمني ناهيك عن إقرار واستعداد للحل السياسي في سورية.

تركيا هي الأخرى تتحضر لمثل هذا الإنتقال، وقد يسهم في ذلك الدور الروسي والإيراني اللذين يدركان تماماً أهمية هذا البلد في الإقليم ودولياً حتى، لذلك تركا شعرة معاوية، فكانت النافذة الاقتصادية هي الشعرة المتينة. طبعاً ليس صعباً أن نتوقع تحولات تركية بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أفضت إلى ضرب مشروع أدروغان في الهيمنة على الداخل التركي، ما يعني نضج الظرف الداخلي التركي للتحول عن السياسات السابقة وإن ببطؤ وتلكؤ إلا أنها ستكون أيضاً خاضعة للميزان الدولي الجديد. من المهم في هذا السياق لحظ موقع الكيان الصهيوني الثابت في تموضعاته فهو ليس إلا قاعدة متقدمة للإمبريالية وبالتالي لا يمكن أن يستقل بحكم نبيانه العضوي المترابط بالقطب المتراجع.

مما لا شك فيه أن الوضع الدولي الناضج تدريجياً للحلول السياسية وبشكل واضح في الأزمة السورية يعكس التغيرات في الميزان الدولي الجديد وما يجري الآن في الإقليم هو إنضاج بقية الشروط على صعيد الدول الإقليمية التي توهمت دوراً أكبر من طاقاتها في لحظات ما.