حول روسيا «الامبريالية» والكاوتسكيين الجدد
يعود إلى الواجهة هذه الأيام، الترويج لمقولة «روسيا الإمبريالية»، وقراءة سلسلة أحداث تغير ميزان القوى الدولي الجديد، والتوافقات الأمريكية الاضطرارية مع روسيا ودول «بريكس» على أكثر من ملف دولي، على أنه من باب «إعادة الاقتسام» في المنظومة الإمبريالية نفسها.
هذه المقولات التي برزت بخاصة منذ الفيتو الروسي الصيني الأول في مجلس الأمن ضد التدخل العسكري في سورية، وحتى اليوم، كبروباغاندا أمريكية – غربية لم يفلت من الانجرار إليها والتساوق معها حتى بعض القوى والشخصيات المحسوبة على «اليسار» عربياً وعالمياً.
تأريخ الإمبريالية علمياً
الحقبة الإمبريالية من الرأسمالية العالمية لم تبدأ قبل 1898 – 1900 ، ولكن كانت ميزة خاصة بإنكلترا أنها حتى في أواسط القرن التاسع عشر، وخاصة بين عامي 1848 و 1868، كانت تبدي – كما يقول لينين - على الأقل سمتين مميزتين كبيرتين من سمات الإمبريالية: (1) مستعمرات واسعة، (2) ربح احتكاري (بسبب موقعها الاحتكاري في السوق العالمية). وكانت بذلك استثناء بين الدول الرأسمالية آنذاك. في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر سجّل الانتقال إلى مرحلة جديدة، إمبريالية. فالرأسمال المالي لا يتمتع بالاحتكار في دولة واحدة، بل في بضعة دول كبرى، قليلة العدد. والإمبريالية حسب لينين هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار، بسماتها الخمسس الرئيسية: (1) تمركز عالي للإنتاج والرأسمال لدرجة نشوء الاحتكارات. (2) اندماج الرأسمال البنكي بالصناعي لينشأ الرأسمال المالي والطغمة المالية. (3) تصدير الرأسمال، خلافاً لتصدير البضائع. (4) تشكل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية (الكارتيلات والسنديكات والتروستات..) تقتسم العالم. (5) انتهاء تقاسم أقطار الأرض من قبل كبريات الدول الرأسمالية. كما وكشفت عن النزعة العدوانية والحربية الدائمة لدى الإمبريالية «دون إعادة اقتسام المستعمرات بالقوة لا تستطيع الدول الإمبريالية الجديدة الاستحواذ على الامتيازات التي كانت تتمتع بها القوى الإمبريالية القديمة (الأضعف).»
ماذا كانت روسيا قبل السوفييتية؟
في «الإمبريالية والانشقاق في الاشتراكية» الذي ألفه عام 1916 يذكر لينين أنه «في اليابان وروسيا، نرى أن احتكار قوى الحرب، أو امتداد الأرض الشاسعة، أو السهولة الخاصة في نهب القوميات الأخرى، والصين، إلخ. إنما يحلّ جزئياً محل احتكار الرأسمال المالي الحالي العصري، وتستعيض عنه جزئياً.»
إذن كانت روسيا قد وصلت إلى درجة ما تزيد أو تقل من التطور الرأسمالي / الإمبريالي قبل ثورة أوكتوبر الاشتراكية العظمى، والتي جاءت فقطعت الطريق ليس فقط على إمكانية التطور الإمبريالي لروسيا بل والرأسمالية فيها بشكل عام وتحول تطورها بشكل جذري إلى الطريق الاشتراكي.
وعندما استعيدت الرأسمالية إلى روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي ونهبه، يجب ملاحظة الفرق النوعي فهي عادت بوصفها منطقة نفوذ مهيمَن عليها و»مستعمرة» بالمعنى الحديث للكلمة من قبل رأس المال الإمبريالي العالمي المصدّر إليها.. ومن أين؟ بالدرجة الأولى من الولايات المتحدة الأمريكية التي تابعت تطورها الإمبريالي والاستعماري خلال حوالي ثلاثة أرباع القرن الذي كانت فيها روسيا خارج دنيا الرأسمالية.لذلك لا بد من ملاحظة أن الفرضية بحد ذاتها بأن «روسيا المعاصرة إمبريالية» هي ليست فقط غير علمية ولا تاريخية، بل هي تضليلية وتندرج في خانة المحاولات الإمبريالية البائسة في «إعادة كتابة التاريخ».
ويذكر د.سمير أمين في بحثه «سمات الرأسمالية في روسيا بعد السوفياتية، عدد من الملاحظات حول اختلاف التطور التاريخي بين روسيا وأمريكا، ومنها: أن الروس في توسعهم القاري «استوعبوا» الشعوب المقهورة، بينما الأمريكان لجأوا إلى إبادة الهنود. وأن أمريكا تمتعت بغياب وراثة «إقطاعية» في القارة التي أشادت عليها علاقاتها الرأسمالية التي نمت بسرعة دون عوائق، بينما ظلت روسية القيصرية «إقطاعية» في عقائدها وأشكال تنظيم سلطتها. ويضيف أمين أنّ أمريكا استفادت من عزلة جغرافية منعت عملياً التدخل في شؤونها فظلت محمية من إصابتها بالمدافع قبل اختراع صواريخ العصر الحديث القريب. وفي فترة غياب روسيا المؤقت عن الساحة الدولية كانت القوى الإمبريالية العظمى ممثلة في «مجموعة السبعة» G7 قد دعت روسيا للاشتراك في مجالسها فأصبحت مجموعة G8 وذلك بعد سقوط النظام السوفياتي بقليل. ولكن انضمام روسيا هذا قُبل على أساس تبني روسيا لمبادئ الليبرالية الاقتصادية دون تحفظ. أي يجب أن يقرأ من باب تطاول ونفوذ إمبريالي على روسيا، وانكشف أكثر مع تطور مؤامرات الناتو العدوانية ضدها في جورجيا ووسط آسيا وأوكرانيا.
روسيا التوازن الجديد
إن الوضع الديالكتيكي لروسيا والصين ودول «بريكس» بالنسبة للإمبريالية العالمية المتراجعة اليوم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن يفهم على أن هذه الاقتصاديات الناهضة تجمعها بالقوى الإمبريالية تشاطر نظام رأسمالي واحد، ما يفسر سعيها لتراجع دور الدولار عالمياً بشكل هادئ وتدريجي لكي لا يطيح بالمنظومة كاملة بشكل سريع لن تنجو منه أية دولة رأسمالية كبرى، ولكن في الوقن نفسه، يكمن التناقض معها في أنّ الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على المركز الإمبريالي، والتي اضطرته إلى الخروج إلى الحرب العدوانية ضد العالم وضد هذه الكتل الرأسمالية الناهضة، لا يمكن إلى أن يلقي بانعكاساته على سياساتها العالمية الخارجية من جهة الدفع بها نحو لجم الحروب وتوسيع تحالفات قوى السلام من جهة، وعلى الصعيد الداخلي يفرض عليها تحديات ترقى إلى مهمات ثورية على الصعيد الاقتصادي فيما لو أرادت روسيا والصين و باقي «البريكس» من الاستمرار في نهج الندية مع الغرب، وضرورة تنشيط السوق الداخلية للاستعاضة عن طلب دول المركز المأزوم، يتطلب عموماً إعادة النظر في توزيع الثروة والدخل داخلياً بين الأجور والأرباح لصالح زيادة الأولى على حساب الثانية، مثلاً عن طريق مضاعفة معدل دخل الفرد لأكثر من مرة فهو لايزيد حالياً عن 11 الف دولار في روسيا مقابل 47 ألف دولار تقريباً في الولايات المتحدة و35 ألف دولار لأوربا الغربية. وإن اتجاهات للتطور من هذا القبيل يؤكد أهمية كلام لينين حول أنّ الشعوب في صراعها ضد الإمبريالية سوف تندار ضد الرأسمالية في بلدانها الأم نفسها.
الإمبريالية»المسالمة» و»الكاوتسكية الجديدة»
كثير من الطروحات تروج اليوم إلى فكرة «الصفقة» و»التقاسم» بين أمريكا وروسيا، في ملفات دولية، ومنها سورية،تدعي تطابقهما «كإمبرياليتين»، وتحاول تشويه قراءة النزعة الموضوعية لنضال قوى الشعوب والسلام عالمياً في إطفاء الحرائق وإيقاف الحروب الإمبريالية، وإيجاد حلول سلمية للأزمات السياسية. ويستغل البعض هذا التطور الموضوعي ليشوه مضمونه التقدمي، ويعيد إحياء أضاليل ميتة مثل «نهاية التاريخ» من باب أن الرأسمالية ستستمر وها هي قواها تتصالح!
واللافت بالمقارنة التاريخية ملاحظة التشابه بين هذه الطروحات وفرضية أحد المرتدين عن الماركسية، وانتهازيي الأممية الثانية المعروف «كارل كاوتسكي»، الذي انتقده لينين انتقاداً لاذعاً وكشف انتهازية فرضيته المعروفة باسم «ما فوق الإمبريالية» Ultra-Imperialism، التي تقول بإمكانية التطور السلمي للإمبريالية عبر لجوء قواها المكونة إلى إلغاء صراعاتها البينية واعتماد «التسويات السلمية الدائمة» سبيلاً، في محاولة لتغطية تناقضات الرأسمالية، وتثبيط العزائم لضرورة نضال العمال والشعوب ضدها.
ما لايستوعبه، أو يتجاهله الكاوتسكيون الجدد، إن 70 عام من التجربة السوفيتية الاشتراكية، أنتجت بنية فوقية، وتحديداً في مستوى الوعي الاجتماعي لا يمكن القفز فوقها او العودة بها الى الوراء، والمحمولة أصلاً على بقايا بنية المشاعة القلاحية الروسية التي أشار لها انجلس و نمط القيم و العادات و المنظومة الاخلاقية حيث تبين أن جذورالروح الفردية الغربية الانانية الميركانتيلية (النقدية) هشة و سطحية لابل أن المهيمن هو قيم الروح الجماعية، وبالاضافة إلى ذلك فأن روسيا، مستهدفة كمستعمرة بكل معنى الكلمة القديم و الجديد، و يمكن ان تكون ساحة لتفريغ الازمة الرأسمالية لو تمكنوا من ذلك، و لكن هذا الاستهداف الامبريالي الغربي دفع ويدفع روسيا للدفاع عن ذاتها، مع ما يتطلبه ذلك من مركزة و اعادة توزيع للموارد لتأمين الدفاع عن النفس و كذلك حد معين من العدالة لا يمكن دونه تأمين وحدة المجتمع في المواجهة، ومن الجدير بالذكر هنا أن خصوصية روسيا الجغرافية بمساحاتها الواسعة و مناخها القاسي، والبنى التحتية المتكاملة، لا تسمح بديمومة الرأسمالية في روسيا، بل العكس تماما حيث فشلت محاولة الردة الرأسمالية أصلاً عند هذه العقبة في عمليات الخصخصة الشاملة و بدأ اندحارها هنا بالذات حيث تعتبر استحالة خصخصة سكك الحديد و خطوط نقل الكهرباء و الغاز دليلاً على ذلك.