التوازن الجديد بين الحرب والسلام

التوازن الجديد بين الحرب والسلام

تتزامن الذكرى السبعون للانتصار على الفاشية هذا العام مع مرحلة تاريخية جديدة تمر بها البشرية، فيها من الشبه مع القديم، ومن الجديد المختلف كثيرٌ مما يستحق التوقف عنده. في القرن الماضي استطاعت قوى السلام بقيادة الاتحاد السوفياتي أن تجهض المولود الفاشي من رحم الإمبريالية العفن، ومن الرحم ذاتها تواجه البشرية اليوم مولوداً فاشياً جديداً.

خطورة المسألة يمكن طرحها اليوم كالتالي: كيف ستنتهي الحرب العالمية الثالثة القائمة؟ بمقبرة جماعية للحضارة البشرية! أم ببداية سلام دائم؟ إنّ الجواب رهن بنجاح أو فشل قوى السلام في إخمادها.


سلام-حرب: فرز جديد

يشهد العالم اليوم فرزاً دولياً عابراً حتى للاصطفافات الطبقية، فإضافة للشعوب بطبقاتها العاملة الأدنى والأفقر، وصغار البرجوازية المتزايدة التدهور نحو الأسفل، ستنضم لقوى السلام أيضاً أجزاء من القوى الرأسمالية (العاقلة) والمعرضة مثل باقي أعضاء هذا التحالف لتهديد حياتها ومصالحها الحيوية مباشرةً من الحروب والنزاعات المسلحة المستعرة اليوم عبر العالم من جانب القوى (المجنونة)، أي الفاشية، وبالتالي فإن مكونات تحالف قوى السلام هذه تجمعها مصلحة وجودية، البقاء على قيد الحياة بالحد الأدنى، ولذلك لها كل المصلحة في إنهاء النزاعات وحلها سلمياً، وإيقاف الحروب المدمرة.
بالمقابل تضمّ (قوى الحرب) القوى الأكثر فاشية وعدوانية ورجعية، المتمثلة بشرائحها القائدة، برجوازية رأس المال المالي العالمي، وترسانتها المادية من الأسلحة، وأدواتها البشرية، العسكرية من جيوش، وعصابات، ومقاتلين الشركات الأمنية والتنظيمات الإرهابية المتنوعة، فضلاً عن كوادرها الإعلامية والفكرية، وأدوات هيمنتها الاقتصادية ولإيديولوجية، التي لم يعد يخفى على أحد توسّلها بإذكاء الصراعات داخل المجتمعات على أسس الاختلافات الثانوية، من قومية ودينية وطائفية وغيرها.. وعلى هذا النحو فإن قوى الحرب أيضاً ليست صافية طبقياً، بل تضم إضافة لشرائح البرجوازية الكبرى من الطغمة المالية القابعة في رأس هرم قيادتها وإدارتها، الأجزاء من الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة، الأكثر ضلالاً، وعرضة لغسل أدمغتهم، بسبب إعدادهم لذلك، الذي ساهمت فيه بقوة ظروف الإفقار والتعطيل عن العمل، والتخلّف التي يعيشونها، ولا سيما بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى للرأسمالية التي انفجرت منذ العام 2008 وما زالت تستعر وتزداد تفاقماً وتعقيداً حتى اليوم.


الرأسماليات التابعة وقوى الحرب

لعل أهم الدروس التي يستفاد منها في الأزمات المعاصرة التي تحولت إلى حروب تدخل إمبريالية بأشكال مختلفة، ملاحظة دور غياب عوامل الوقاية والمقاومة الكافية لدى الدول الضحية. الدول الثالثية جميعها التي تعرضت للتدخلات الأخيرة، تميزت بسمة عامة مشتركة، وهي وجود نظام اقتصادي – اجتماعي ذو نموذج رأسمالي نيوليبرالي، ضعيف أو عديم التنمية، مع تدهور المؤشرات الاقتصادية-الاجتماعية، مثل تفاقم البطالة والفقر، واتساع التفاوت الطبقي، وثراء شريحة صغيرة من المجتمع على حساب باقي فئات الشعب، شريحة الفساد الكبير، والتي تنتمي طبقياً إلى نوع خاص من البرجوازية، ما يعرف بالكومبرادور، التي تعتبر من أحد أهم وسائط تهريب كميات العمل والثروة الوطنية من داخل هذه البلدان إلى رؤوس الأموال الغربية بشكل خاص، مقابل حصولها على حصة من هذا النهب، تضمن إخلاصها لأرباب نعمتها في الخارج.
وتم تيسير عمل الكومبرادو بشكل كبير بعد التحولات الاقتصادية باتجاه تبني الإصلاحات النيوليبرالية ووصفات مؤسسات رأس المال المالي العالمي (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية). و تقاطع مصالح هذه الشريحة بقوى الحرب العالمية، مما يدفعنا إلى نتيجة مفادها بأنه لا يمكن ارساء استقرار وسلام حقيقي دون مقاومة هذه الشريحة، بما يعنيه من قطع أحد الشرايين الهامة التي تغذي قوى الحرب الإمبريالية العالمية، مما يعني أنّ أية تسوية سلمية للأزمات لا يمكن ضمان استمرارها وعدم انتكاسها مستقبلاً دون إجراء تغيير النظام الذي ولّد الأزمة تغييراً وطنياً  متكاملاً من النواحي السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية في هذه البلدان بحيث يضمن استعادة السيادة وإدارة مقدرات هذه البلدان إلى أيادي الشرائح الشعبية الأوسع صاحبة المصلحة الحقيقية في الحفاظ على الأمن والسلام وضمان مقاومة أي هجمات فاشية خارجية أو تخريب داخلي.


«عدم الانحياز» اليوم؟

ولدت ما تسمى «حركة عدم الانحياز»، في ظرف التوازن الدولي السابق، بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل الحرب الباردة، وضمت تلك الكتلة من الجغرافية السياسية البشرية (بلدان العالم الثالث)، التي وجدت ذلك الظرف التاريخي الذي أتاح لها من جهة أن تتحرر من السيطرة المباشرة للقوى الاستعمارية القديمة الأوروبية (بريطانيا وفرنسا بشكل رئيسي) على خلفية ضعفها وتراجع وزنها الدولي كنتيجة للحرب العالمية الثانية، والتي لم تستكمل أبداً من جهة ثانية استقلالها الوطني، واستمرار تبعيتها الاقتصادية للمعسكر الرأسمالي، وعدم تحقيق تحررها الاجتماعي 
كان موقف عدم الانحياز القديم يعني بأحد أوجهه الاختيار بين نظامين اقتصاديين اجتماعيين مختلفين (الرأسمالية الطرفية، أو الاشتراكية)، ويتيح إمكانية الوقوف على الحياد إزاء حرب باردة كانت تجري خلالها عملية تراجع الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، بخاصة منذ أوائل الستينات، مقابل إعادة ترتيب الرأسمالية لأوراقها بشكل «سلمي» نسبياً، نحو صعود الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح القوة الإمبريالية الأولى بعد تراجع القوى الإمبريالية الأوروبية التقليدية، وصولاً إلى سقوط الاتحاد السوفييتي وتطويب أمريكا قطباً عالمياً أوحداً.
كان ذلك زمناً آخر، أما اليوم في زمن الحرب العالمية الجديدة المهددة بفناء البشرية هل يبقى «الحياد إيجابياً»؟ هل يملك أحد ترف «عدم الانحياز»؟
لم يعد يوجد معسكر اشتراكي، فالبشرية جمعاء ترزح تحت نير الإمبريالية الكاملة التطور والتعفّن والتي أطبقت على كامل مساحة الكرة الأرضية، ولم يعد ثمة ملجأ احتياطي غير «مُرَسْمَل»، كما كان فضاء الاتحاد السوفييتي حديث الانهيار، لكي تصدّر الإمبريالية أزمتها الاقتصادية البنيوية إليه، وتنهبه وتعتاش عليه عقداً آخر من الزمن (حتى 2001)، قبل أن تنتهي عملية رسملته ورسملة الأرض قاطبة فتختنق بأزماتها الاقتصادية من جديد (2008) فتلجأ إلى تنفسها الاصطناعي القديم – الحرب، ولو بشكل جديد، حرب عالمية ساخنة وغير تقليدية، تدارعن بعد من قبل قيادة القوى الفاشية الجديدة العالمية، من مقر أركانها المركزي في واشنطن، بينما تتوزع قياداتها الفرعية وجيوشها إقليمياً عبر خارطة الحرائق العالمية، من النازيين الجدد في أوكرانيا، إلى «إسرائيل»، والقاعدة وتفرعاتها، و»داعش» وأخواتها، في العراق وسورية، وليبيا، واليمن..
بالمقابل نجد تحالف قوى السلام الجديد يتبلور ضدّ هذه الحرب (نواته روسيا والصين) ويضم دول «بريكس»، والديمقراطيات الشعبية في أمريكا اللاتينية (كوبا، فنزويلا، بوليفيا)، وهو إلى توسع ملحوظ، مع مؤشرات لالتحاق قوى (عاقلة) من رأسماليات أوروبة الغربية أيضاً.
قوى السلام الجديدة هذه تلاحق الحرائق لإطفائها، وسحب ذرائع الحرب، وتفكيك ألغامها، والضغط لحل النزاعات بوسائل سياسية وسلمية، وجهودها مبشّرة بالخير، وقد مرت في الفترة الأخيرة بمحطات نوعية (النووي الإيراني، اليمن، سورية) ، قد تصبح عند تمام نجاحها نموذجاً يحتذى، وفاتحةً لسلسلة انتصارات على فاشية القرن الواحد والعشرين الجديدة، وبالتالي أملاً بإنقاذ مستقبل المجتمع البشري.
فماذا يعني «عدم الانحياز» اليوم؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب أولاً الإجابة عن سؤال ثانٍ: هل يمكن لأية قوة، جماعة، أوحتى فرد اليوم، الوقوف موقف الحياد في الاختيار بين قوى السلام، وقوى الحرب؟ إنّ متابعة التفكير المنطقي بالسؤال تحتاج أيضاً إلى الإجابة عن سؤال ثالث: هل قوى السلام وقوى الحرب اليوم ثنائية حقيقية موضوعياً، أم هي ثنائية وهمية؟ نتابع التفكير.. التجربة معيار الحقيقة. بتجربتنا القريبة منا في الأزمة السورية على الأقل – ويمكننا ضرب أمثلة مشابهة من التجربة الأوكرانية، الإيرانية، واليمنية، وغيرها.. - هل يمكن الحياد في الاختيار بين تأييد مشاريع قرارات التدخل الخارجي العدواني الأمريكي على سورية (قوى حرب)، أو تأييد فيتوات روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي ضد تلك المشاريع (قوى سلام)؟ لنتذكر التناقضات غير القابلة للحل التي دخلت بها بعض القوى والشخصيات التي حاولت عبثاً التوفيق بين الأمرين، فخرجت بصيغة «لعم» البائسة (لا ونعم!). بالمثل مؤخراً تلاحظ محاولة البعض التضليلية لطمس التناقض الحقيقي بين ثنائية (قوى السلام  - قوى الحرب الفاشية)، وإظهار روسيا وأمريكا على أنهما ثنائية وهمية عبر إشاعة مقولة أنهما مجرد «قوتين تتصارعان على تقاسم سورية بينهما». إنّ مواقف الحياد الظاهري من هذا القبيل مهما بدت لأول وهلة «وطنية» بإدعائها الـ» لا شرقية ولا غربية» هي بالممارسة العملية، ومن حيث تعي أو لا تعي، لا تصبّ إلا في طاحون استمرار الحرب وتسهيل العمل القاتل والتدميري لقواها الفاشية، وتعرقل وتؤخر مساعي قوى السلام والحلول السياسية.

إنّ تكاتف قوى السلام العالمي اليوم وتوسيع تحالفها وتقويته ترقى إلى مهمة إنسانية عظمى تفرض نفسها بالدرجة الأولى على قوى الشعوب وتنظيماتها المختلفة الأشكال اجتماعياً وسياسياً، التي يعول الكثير عليها كضمان لتظهير توازن القوى الدولي الجديد وتحريكه بسرعة أكبر ضدّ قوى الحرب والفاشية الجديدة، والانتقال من مقاومتها وردعها إلى هزيمتها والانتصار النهائي عليها، وفتح أفق جديد لمستقبل أفضل للمجتمع البشري.