التغيرات الإقليمية والحلول السياسية
تشهد الساحات الإقليمية المختلفة تسارعاً متزايداً في تعبيرها عن التوازن الدولي الجديد. ويظهر التغير في موقف فرنسا من المسألة الأوكرانية عبر «رباعية النورماندي» بوصفه جزءاً من المشهد الإقليمي الأوروبي المتغير، الموقف الذي يظهر استقلالاً نسبياً لباريس عن السياسة الأمريكية في أوكرانيا، وإن كان ذلك الاستقلال لم يصل حد التعبير عن نفسه على المستوى الدولي وفي جميع الملفات حتى اللحظة ولكنّه خطوة هامة على الطريق، يلي ما سبق لألمانيا أن أبدته في الإطار ذاته من استقلال نسبي أعلى من جارتها الأوربية، عن سياسات "العم سام".
في منطقتنا، طفا على السطح بشكل معلن تهتك مجلس التعاون الخليجي واحتدام مشكلاته الداخلية والإقليمية التي تعززت مؤخراً في المواقف من مصر واليمن التي بدا العجز السعودي فيها واضحاً. كما فشلت محاولات «المصالحات» و«التفاهمات» الإقليمية التي اشتغلت عليها دول الخليج وتركيا مؤخراً مع مصر، الأمر الذي يحمل من الدلالات والمعاني الكثير:
إنّ محتوى المصالحات المعروضة على مصر هو احتواء دورها الإقليمي الذي تنفتح آفاقه، وتثبيتها عند وضعها السابق المنكفئ نحو الداخل، ورفض هذه المصالحات يعني بداية تبلور سياسات مصرية أكثر استقلالية عما كان سائداً لديها.
إنّ رفض مصر لعملية الاحتواء تلك رغم ما لدى الخليج وتركيا من أوراق خطيرة تستخدمها ضد مصر يعني أن المصريين وصلوا إلى ذلك الحد الذي تبدو معه مجدداً صحة المقولة التاريخية المعروفة «إغضاب الاستعمار أسهل من استرضائه».
من جهة أخرى فإنّ استدارة مصرية بهذا الحجم لا بد أنها ترتكز موضوعياً على مؤازرة ودعم كل الدول والقوى المتضررة من استماتة واشنطن في محاولاتها تثبيت أشكال هيمنتها السابقة، وفي مقدمة هذه القوى تبرز روسيا بطبيعة الحال. ويجري ذلك بالتوازي مع ضعف متزايد في صفوف حلفاء أمريكا وعملائها في المنطقة، الحلفاء الذين لم يعد بمقدورهم تمرير ما يريدون كما اعتادوا خلال العقود الثلاثة الماضية.
وفيما تظهر إحدى ترجمات الاستدارة المصرية في الموقف الثابت من الأزمة السورية والقائل بوجوب حلها حلاً سياسياً يحافظ على وحدتها أرضاً وشعباً، تظهر أبرز مؤشرات هذه الاستدارة بثبات الموقف الرسمي المصري من الإخوان المسلمين، الأداة الأساسية بيد واشنطن وعملائها في المنطقة، والتي طالما شكلت قناعاً سياسياً للإرهاب، ما يعني أنّ إصرار مصر على الاستمرار في رفض الإخوان يعني قيام استدارة مناقضة بالغة الخطورة ويائسة في آن معاً من جانب الطرف الآخر تتمثل في اضطرار مشغلي الإخوان إلى الانتقال نحو دعم الإرهاب وتنظيماته الفاشية الجديدة علناً..!
بالمحصلة، فإنّ هذه التغيرات الإقليمية بمجملها تعبّد الطريق نحو نتيجة واحدة هي انسحاب واشنطن التدريجي من المنطقة وصولاً إلى انتهاء مرحلة وضع يدها عليها. وإن هذه الحالة تعني اليوم وبالملموس إعطاء زخم ودعم إضافي لمسار الحل السياسي في سورية، مثلما يعني اضطرار واشنطن وعملائها إلى القبول بإيران مع ملف نووي محسوم، وبمصر مع استقلالية أعلى من السابق، وبموقف أضعف لهم في سورية ذات الدور المفتاحي.
وفيما يعني سورية ويعني السوريين في أزمتهم فإن هذا الأمر يفتح الطريق أمام الحل السياسي للسير قدماً، ما يرتب على القوى الوطنية على اختلاف مواقعها مهمة السير بعملية الحل السياسي إلى الأمام، وتذليل كل العقبات التي من الممكن أن تنشأ في طريقه، من خلال مساعي الطرف الآخر لإفشال هذا المسار.