«لا حوار مع المسلحين» و«لا حوار إلا معهم»!

«لا حوار مع المسلحين» و«لا حوار إلا معهم»!

قدمت الدعاية السياسية- الإعلامية لمتشددي «الموالاة» شعارات متباينة ومتناقضة في فترات مختلفة من عمر الأزمة السورية، وتبدلت هذه الشعارات مراراً وتكراراً حسب الظروف والمعطيات..

واحد من الأمور الجوهرية التي تبدلت مرات متلاحقة، ومن النقيض إلى النقيض، هي مسألة الحوار على العموم، والحوار مع المسلحين على الخصوص. 

في السنة الأولى، كان مجرد طرح فكرة الحوار مع المسلحين جرماً يطعن صاحبه بوطنيّته وحتى بقدراته العقلية من جرّائه! في أواخر العام الثاني وبعد «جنيف-1» أصبح الشغل الشاغل، ليس للإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري فقط، بل وللمسؤولين السوريين أيضاً هو الحديث عن استعداد «الدولة» للحوار مع الجميع: «المسلحين والتنسيقيات.. وإلخ» وبدأ يدرج مصطلح «المصالحات الوطنية» الذي تمظهر على الأرض لاحقاً بشكل مجموعة ضيقة من الهدنات الميدانية في بعض الأحياء. انهارت تلك الهدنات بمعظمها وهو أمر طبيعي، فحين تجري هدنة في سياق الحرب فإن استمرار الحرب يعني بشكل طبيعي سقوط الهدن، وهذا ما جرى. أي أنّ ما سمي بالمصالحات لم يتجاوز حتى اللحظة منطق الهدنة الميدانية و«استراحة المحاربين» لا استراحة المتقاتلين والمدنيين! فالمصالحة- إذا حملت معناها اللغوي على الأقل- فهي تنتمي إلى بيئة الحل السياسي وليس إلى بيئة «الحسم» و«الإسقاط»، فالمصالحة لا تفترض حل المشكلات المستعجلة فقط– مع أنّ المصالحات التي جرت لم تحل إلا جزءاً من هذه المشكلات- بل واتفاقاً على عودة الحياة إلى دورتها الطبيعية كاملة، بما يتضمنه ذلك من خطة عمل لحل المشكلات القديمة العالقة.

قبل أن يدرج مصطلح «المصالحات» الذي يتضمن بداهة «حواراً مع المسلحين» كان الرائج هو «رغبة الدولة» الكبيرة بالحوار مع القوى السياسية «الوطنية والمعتدلة» لأنّ «الحوار معها بناء» في حين أنّ الحوار مع المسلحين «لا يكون إلا بالسلاح».. غير أن المفارقة تمثلت في أن أي حوار جدي بهدف الخروج الشامل من الأزمة الشاملة لم يجر مع قوى المعارضة السياسية في حين كانت الهدن شبه الهشة تتواصل مع المسلحين في أكثر من منطقة لتبرز صورها على شاشات الإعلام بأنواعه.

ومع ظهور الجهود الروسية خلال الأشهر الماضية، ومن ثم مع انعقاد لقاء موسكو بجولته الأولى، ومع طرح مبادرة دي ميستورا وتعديلاتها، فتحت الأدراج ليستعاد منها «الحوار مع المسلحين» بطريقة مباشرة أحياناً وغير مباشرة أحياناً أخرى، فالإعلام الرسمي وشبه الرسمي والمحللون من الدرجات الأولى حتى العاشرة يشتغلون على فكرة واحدة: «من تمثل هذه القوى المعارضة السياسية التي يريدون منا أن نحاورها؟» وإن كانت لا «تمون» على المسلحين، فما الفائدة من الحوار معها؟ «الأولى أن نحاور المسلحين أنفسهم»، «ونحن نقوم بذلك بالفعل عبر المصالحات الوطنية»، و«هذه المصالحات هي الحل السياسي كما نراه»!!

بكلامٍ آخر، فإنّ المتشددين هؤلاء، رفضوا الحوار مع المسلحين في وقت كان ذلك ممكناً ومطلوباً، وأقبلوا على حوار شكلي مع القوى السياسية بانت شكليته وعدم جدية النظام فيه من خلال تملصه من تنفيذ جميع التوصيات التي شارك في صياغتها ووافق عليها في اللقاء التشاوري تموز 2011. بعد ذلك وحين لم يعد ممكناً التملص من استحقاق الحوار مع القوى السياسية، أصبح الحوار مع المسلحين هو الأمر المهم والممكن والعقلاني والوطني، وعبر «المصالحات»، وتحولت القوى السياسية المعارضة «الوطنية والعقلانية والمعتدلة» إلى قوىً بلا وزن ولا أهمية ولا ضرورة للحوار معها..

إنّ هذا التقلب من النقيض إلى نقيضه يثبت أنّ المتشددين يرفضون الحوار بجميع أشكاله وأنواعه وأطرافه، وقبولهم به في هذا الظرف أو ذاك هو انحناء للعاصفة ومراوغة لها، علّها تمر دون تقديم أية تنازلات جدية، يقتضيها خروج سورية واحدة موحدة من أزمتها، عبر آليات الحل السياسي.

أضف إلى ذلك أنّ التقلب بالشعارات يعكس مدى احترام مطلقي هذه الشعارات لعقول الناس، وبالأحرى مدى عدم احترامهم! أي أن هؤلاء يطلقون الشعار الذي يواجهون فيه الآخر بغض النظر عن قواعدهم الجماهيرية ورأيها في هذا التقلب.. ربما هذه هي آخر اهتماماتهم؟

المهم هو أن بعض المتشددين يحاولون الآن تأريض جهود حل الأزمة سياسياً، والهروب من تحويل لقاءات موسكو، مثلاً، إلى مدخل جدي للحل عبر النفخ في القربة التي قطعوها هم بأنفسهم عبر المبالغة في دور «المصالحات» والهدن الميدانية وتصويرها بديلاً عن الحل السياسي، وهو ما لن يسمح منطق الحل السياسي القادم ببقائه..