التغيير والتحكم أو الثورية المثالية
يصبح الإنسان حراً عندما يخلق عالمه الطبيعي والاجتماعي. وهو يحقق حريته برحلة طويلة من محاولات الإحاطة بهذا العالم بوعيه. لكن الوعي وحده لا يكفي إن لم يكن منطلقاً لتغيير هذا العالم، حاملاً في طياته عنصر التحكم أو السيطرة على الطبيعة والمجتمع.
وقد مر تاريخ الوعي بمراحل متعددة؛ من الاعتماد على السحر إلى الوعي الأسطوري إلى الوعي الفلسفي إلى الوعي العلمي. لكن المرحلة الجديدة لم تكن تلغي المراحل السابقة تماماً، لأسباب تتعلق بطبيعة تطور المجتمع وتطور الوعي الفردي داخل المجتمع.
ما تجب ملاحظته أن الوعي العلمي للمجتمع والظواهر الإنسانية جاءت متأخرة، بسبب تعقد الحركة الاجتماعية وصعوبة التجريب وغلبة الجانب الذاتي على البحوث الإنسانية. ويمكن القول إن الوعي العلمي لمّا يرسخ في المجال الاجتماعي خصوصاً. إذ ما يزال كثير من الناس، بل العلماء وأساتذة الجامعات والسياسيون والمسؤولون الحكوميون ...الخ، يقيمون تصوراتهم الاجتماعية على أسس غير علمية حتى الآن! إذ يمكننا رؤية من يدعي معرفة المجتمع وفي الوقت نفسه ينكر وجود قوانين اجتماعية، بدعوى أن الإنسان حر أو أن العلم احتمالي وما إلى هنالك من التخريفات.
إن العلم دراسة منظمة ذات موضوع ثابت، لها منهج محدد وتستهدف فهم الظواهر من خلال اكتشاف المبادئ والقوانين التي تحكمها، مما يسمح بالتنبؤ بحدوثها وتغييرها (أو توجيهها) والتحكم بها (أو السيطرة عليها). فالعلم نوع من الوعي البشري الذي ينصب على ما هو ضروري، أي على ما هو عام وثابت ومتكرر في الظاهرة. والوعي العلمي هو الوعي القائم على تكوين نظرات ومواقف تستند إلى العلم.
والإنسان، عندما يعي شروطه الاجتماعية وعياً علمياً يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه الظواهر، بناءً على القوانين التي تتحكم بها. فيوازنها مع ما يريد من مصالح، مما يسمح له باختيار سلوكه الذي يشكل تغييراً في الأسباب، مما يؤثر حكماً في النتائج. فكل ظاهرة تشكل نتيجة لجملة من الأسباب الفاعلة ضمن شروط مناسبة. والإنسان، بما يمارس من سلوك فردي وجمعي، من أهم الأسباب الفاعلة في الظواهر الاجتماعية.
وهنا لا بد لنا من التمييز بين مستويين للوعي؛ فردي وجمعي. فالوعي الفردي مرتبط بالفرد من حيث سماته الشخصية ومستوى تعليمه ... الخ، في حين يرتبط الوعي الجمعي بالجماعات، كالفئة والطبقة الاجتماعية ...الخ. مع ملاحظة أن كل وعي، مهما كان عاماً، لا بد أن يتجلى في الأفراد؛ على اعتبار أن كل عام يتجسد بالخاص.
فعدم الاعتراف بقانونية الظواهر الاجتماعية يعني نفي العلاقة الثابتة بين الأسباب والنتائج، وبالتالي نفي إمكانية التغيير والتحكم بهذه الظواهر، أي نفي أي دور واع للإنسان في الحياة الاجتماعية.أما الاعتراف بقانونية الظواهر الاجتماعية فيعني أن الإنسان، بوساطة العلم، يخلق الظواهر وذلك عندما يتحكم بها، فيتحرر من الضرورة الاجتماعية. وبقدر ما يكون التفسير صحيحاً، يكون التغيير أكثر إيجابية.
الموقف الثوري إذاً لا يقوم على رفض ما هو قائم فقط، على اعتبار أنه لا يحقق مصالح القوى الاجتماعية التقدمية. بل لا بد من فهم شروط ما هو قائم، أي تلك العوامل التي تنتجه، من أجل النضال لتغيير تلك العوامل لإنتاج ما يجب أن يقوم ليكون محققاً مصالحها؛ أي الانطلاق مما هو كائن (فهم الشروط الاجتماعية) نحو ما ينبغي أن يكون (التنبؤ العلمي).
إن الفرق الأساسي بين التغيير الاجتماعي والتحكم الاجتماعي هو أن الأول عملية نضالية يومية توفر الشروط المناسبة لقوى التحكم الاجتماعي، أما الثاني فهو ضبط نتائج الممارسة بحيث تتحقق الأهداف بالشكل المطلوب اجتماعيا.
إن فهم الشروط الاجتماعية للأزمة السورية مثلا، يعني فهم القوى الفاعلة فيها، ودور كل منها. والتعامل المرن والذكي معها، هو ما يسمح بتجاوزها. أما مجرد الرغبة في الخروج منها بأي وسيلة يدل على وعي غير علمي لهذه الأزمة.
فالأخذ بنتائج العلم الاجتماعي، والتمسك بها نظرياً، دون فهم الشروط الاجتماعية التي يجب توفيرها لتحقيق تلك النتائج، مجرد مثالية ثورية تنكر دور الممارسة السياسية. إن خطأ المثالية الثورية يكمن في الرغبة في تحقيق ما ينبغي أن يكون بغض النظر عما هو كائن، أي سوء تقدير الشروط الاجتماعية. مما يؤدي إلى الانقلابية، أو إلى التعامل مع القوى غير المناسبة، المحلية أو الدولية، لتحقيق هذه الرغبة بأقصر طريق وأسهلها. فمبدأ المثالية الثورية يقوم على إنكار دور الممارسة الثورية والتمسك بالجمل النظرية فقط، وعلى احتكار الموقف السياسي باعتبار كل من ليس معنا عدونا؛ أي التحكم أو لا شيء!