متذرعون ومراهنون: في خندقً واحد!

متذرعون ومراهنون: في خندقً واحد!

لا تخلو مواقف بعض قوى المعارضة المنتقدة للقاء موسكو التشاوري من «براءة» سياسية، أو حرصاً على إنجاح الحل السياسي؛ والمتتبع لسلسلة المواقف يجد تناغماً وتكاملاً بين تلك «الانتقادات» وبين مواقف قوى المعارضة المتشددة المعادية للحل السياسي والمراهنة على التدخل الخارجي


تطول قائمة الملاحظات التي وُجهت إلى لقاء موسكو التشاوري قبل انعقاده. هذه القائمة شملت: أن الدعوات التي وجهت إلى قوى المعارضة لم توجه إلى كيانات وتنظيمات، بل وجهت لشخصيات، وأن التحضير للقاء لم يتضمن جدول أعمال، وأنه ليس رسمياً بل تشاورياً، وأن مخرجاته ليست ملزمة لأي طرف، وأن بعض الشخصيات المدعوة من المعارضة حولها إشارات استفهام من حيث جدية معارضتها.. الخ.
ظاهرياً بدت هذه الملاحظات وكأنها تهدف أن يتجنب هذا اللقاء الوقوع بأي ثغرة تجعل مصيره الفشل. وربما يكون الأمر كذلك بالنسبة لقسم من القوى التي وجهت الملاحظات، وعلى هذا الأساس، واصل الجانب الروسي حواراته ومشاوراته مع قوى المعارضة دون توقف حتى انعقاد اللقاء، وأضاف بعض التعديلات في شكل اللقاء والدعوات.. لكن في المقابل، لم تكن تلك نية البعض الآخر من قوى المعارضة، وخصوصاً تلك التي كانت تطرح تلك الملاحظات بالتوازي مع إعلانها المبكر لـ«وفاة» اللقاء قبل ولادته..

«الثغرات»..تتحول إلى تحصينات منيعة!


كل الملاحظات أعلاه وُجهت إلى الجهة الراعية الروسية. ولكن لنطرح السؤال الآتي: لماذا اتخذ المسعى الروسي الشكل الذي اتخذه؟! أليس استيعاباً لبعض الأمزجة المتشنجة تجاه الحوار؟ وتلافياً لفتح نقاشات مبكرة وخلافية، يفترض أن تبحث داخل اللقاء التشاوري وليس قبله؟ واحتواءً لبعض الأساليب التي استخدمت وتستخدم عادة لإفشال الحل السياسي؟!.. لنأخذ على سبيل المثال، مسألة دعوة شخصيات من المعارضة بدلاً من دعوة تنظيمات وكيانات، الجانب الروسي ذاته أوضح بأنها جرت بهذا الشكل «تجنباً للحرج الذي يثيره نقاش أوزان قوى المعارضة، وحجم الوفود المشاركة»، وأن هذه المسألة من شأنها إفشال التوافق على حضور اللقاء.. وينطبق الأمر ذاته على فكرة أن اللقاء لا يتضمن جدول أعمال ولا قرارات ملزمة وأنه غير رسمي بل تشاوري؛ لأنه من المفترض من هذا اللقاء، التشاوري، أن يفتح الباب أمام «جنيف-3» الرسمي والملزم.

وفي المحصلة فإن سبب وجود تلك «الثغرات»، هو تجنب الوقوع في مطبات القوى التي تدأب عادة على إفشال الحل السياسي من خلال إثارة مسائل خلافية قبل الأوان، لمنع نقاشها على طاولة حوار جدي. وعليه تحولت «ثغرات» لقاء موسكو إلى حصون منيعة في وجه الجهود المعادية للحل السياسي. وتتبين حقيقة أن اللقاء عقد بهذه الطريقة لكي ينجح!..

هجومٌ شرس!

أثناء انعقاد اللقاء التشاوري وبُعيده، تحولت ملاحظات البعض إلى هجوم شرس عليه، اعتمد بالدرجة الأولى على كذب مفضوح وتزوير لكثير من الحقائق التي رافقت انعقاد اللقاء، وفقاً لهذا الهجوم فإن الروس «نسبوا» إلى المجتمعين وثيقة كان قد أعدها منسق الحوار، فيتالي نعومكين، قبل انعقاد اللقاء، وأن مضمون تلك الوثيقة «صب في مصلحة النظام»، وبذلك أثبت الروس «عدم أهليتهم ونزاهتهم لرعاية لقاء بين المعارضة والحكومة»، وبالتالي فإن جهدهم جاء لـ«يكرس بقاء النظام والانقلاب على بيان جنيف-1»...!. وعليه فإن كان من «زينة العقل» غياب بعض من غاب عن اللقاء، فيما يظهر المتشددين صحة «نبوءاتهم» و«حكمتهم» في تحذير المعارضين من الذهاب إلى موسكو!...

هذا الهجوم تجاهل بشكل مقصود توضيحات السيد نعومكن بأن الوثيقة التي تلاها بختام لقاء موسكو تمثل انطباعاته الشخصية، بصفته منسقاً للحوار، وبأنها ليست بياناً ختامياً، وغير ملزمةٍ لأحد. هذا عدا التوضيحات المتكررة للجانب الروسي قبل انعقاد اللقاء، بأنه لن يخلص عنه بيان ختامي أو قرارات، وأن الأساس الوحيد للقاء هو بيان «جنيف-1». بل يظهر هذا الهجوم الرغبة المحمومة عند أصحابه بقطع طريق الذهاب إلى جولة تشاورية ثانية في مطلع الشهر المقبل، من خلال الطعن بمصداقية الطرف الراعي، وبجدية اللقاء ونوعيته من حيث هو أول لقاء تشاوري من نوعه بين المعارضة والنظام، شهد حضوراً وازناً للمعارضة. ويهدف الهجوم أيضاً إلى الطعن بالمعارضة التي حضرت اللقاء، التي وُصفت غير مرة بـ«الرخوة» و«الهلامية»، لتتم الإشارة ضمناً إلى معارضة أخرى «صلبة» سنتعرف عليها من خلال «رهاناتها» التالية.

«الرهانات»؟!..

بينما يضمر البعض في المعارضة عداءهم «المبدئي» للحل السياسي، ويخفونه تحت عباءة الملاحظات والانتقادات، يسفر البعض الآخر عن العقل الباطن لتلك القوى. ويمثل السيد ميشيل كيلو خير نموذج لتلك القوى، لأنه وإن كان كثير التنقل بين التنظيمات والمواقف، إلا أنه ثابت العداء للحل السياسي. ففي مقابلة له على قناة «سكاي نيوز-عربية» عشية انتهاء أعمال لقاء موسكو، وبعد هجومٍ مسهب شنه على للقاء، يطرح كيلو قراءته للتوازن الدولي الحالي. يقول: بأن «الولايات المتحدة الأمريكية إذا فشلت في مفاوضاتها مع إيران حول الملف النووي، في غضون أشهر، فلن تجد مكاناً غير سورية لضرب إيران من خلاله.. وعلينا (هو وتكتله داخل الائتلاف) أن نكون جاهزين لالتقاط هذه اللحظة.. وأن نتجنب حلاً سياسياً لا يرضينا». أي أن السيد كيلو يعول مجدداً على تدخل عسكري أمريكي في سورية وذلك لـ«استعادة رهانات الثورة». ومن الطريف أن السيد كيلو كان قد وصف من حضروا لقاء موسكو قبل حديثه هذا، في المقابلة ذاتها، بأنهم «خارج الوطنية السورية. وأن موسكو كلها خارج الوطنية السورية». أما الوطنية التي يطرحها كيلو فهي في استثمار المعارضة لعدوان أمريكي محتمل على سورية. وفي السياق أيضاً، يعترض كيلو على القراءة التي تقول «بتراجع الدور الأمريكي مقابل الصعود الروسي»!... أليست هذه هي القراءة المتكررة ذاتها للمعارضة اللاوطنية للتوازن الدولي التي كانت قد أتحفتنا بها مراراً منذ حرب العراق 2003، عندما عوّلت على عدوان أمريكي على سورية لـ«تغيير النظام»؟ وهي القراءة ذاتها التي أفصحت تلك المعارضة عنها 4 مرات على الأقل خلال الأزمة السورية مع كل محاولة أمريكية لاستصدار قرار من مجلس الأمن للتدخل عسكرياً في سورية، والتي اصطدمت كلها بالفيتو الروسي- الصيني؟!..

تناغم عالي..

ليست قراءة كيلو التي استعرضناها أعلاه بجديدة، بل هي مثلت في العديد من اللحظات المفصلية في حياة البلاد رهاناً خائباً أخطأ فهم الواقع الدولي الجديد، وزاد من مأزق القوى اللاوطنية التي تسمي ذاتها هذراً بـ«المعارضة»، وجعلها جزءاً أصيلاً وشائخاً من الفضاء السياسي القديم الذي بدأ بالموت مع بداية التغيرات في المجتمع السوري قبل 4 أعوام. بل تكمن المشكلة في الصلة العميقة بين تلك القراءة وبين المواقف السياسية لقوى أخرى تقبل بالحل السياسي لفظياً، بينما تهاجم كل المساعي لإحياء مسار ذلك الحل، ومنها المسعى الروسي، متذرعة بـ«برد الشتاء وحر الصيف» على هيئة ملاحظات وانتقادات، ومتبطرة على آلام ومآسي السوريين المستمر مع استمرار الأزمة. هذه الصلة بات من الممكن النظر إليها «كقانون موضوعي»، نظراً لتكررها مع ظهور كل مسعى لإنعاش مسار الحل السياسي.

وأياً يكن من أمر، فقد ساهم انعقاد لقاء موسكو ونجاحه بوضع الحل السياسي على السكة، وفي تعميق الفرز ليس فقط بين الموافقين على الحل السياسي ورافضيه بالمواقف المعلنة، بل أيضاً بين الموافقين عليه ورافضيه ضمناً ومن خلال السلوك والممارسة. فهذا اللقاء، بما أحرزه من تقدم، ومثلما كشف عن قوى جدية تمثل إرادة السوريين بالحل السياسي للأزمة، كشف أيضاً عن معسكر متكامل يعمل سراً وجهاراً على إعاقة ذلك الحل، ولن يطول الأمر به كثيراً حتى تظهر كل أوراقه.

آخر تعديل على الأربعاء, 22 نيسان/أبريل 2015 19:04