«موسكو» من الاستقطاب إلى الفرز
لم يبدأ اجتماع موسكو التشاوري بعد، والذي يمثل بذاته تمظهراً لتطور مستوى الفرز الجاري على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، ومع ذلك فإنّ نتائجه الأولى قد بدأت بالظهور متمثلة بملامح انقسام علني لائتلاف الدوحة بين مؤيد للحضور ورافض له، أي أنه عملياً انقسام بين الرافضين المنتمين إلى «الإخوان المسلمين» وحلفائهم المقربين من جهة، وبين الآخرين ضمن الائتلاف من الجهة الأخرى، دون أن يعني ذلك تمايزاً أو تمييزاً بين "أشرار وأخيار"، ولكن الأمر يحمل من المعنى والدلالات الكثير:
أولاً، إنّ الانقسام بحد ذاته يعبر عن اضمحلال الائتلاف وتقهقره وتراجع داعميه، ويشكل في عمقه تظهيراً إضافياً لميزان القوى الدولي الجديد الذي يسير إلى غير مصلحة واشنطن وحلفائها، وينعكس إقليمياً وسورياً بجملة من التحولات.
ثانياً، إنّ الميزان الدولي الجديد نفسه، إذ يفتح الأفق نحو الحلول السياسية على المستويات المتفاوتة وللأزمات المختلفة، فإنّه وبالتزامن مع ذلك يسعى ليغلق تدريجياً باب الحروب و«الحلول العسكرية»، ويحجّم بالتالي من تأثير القوى والجماعات المصممة لهذه الوظيفة، ومن أهمها جماعة «الإخوان المسلمين» التي مثلت طوال تاريخها إحدى أدوات المشروع الغربي للتفتيت والتبعية، ومثلت في السنوات القليلة الماضية أحد العناوين الأساسية للّوحة الأمريكية المفترضة للمنطقة.
ثالثاً، إنّ تراجعات هذه القوى في ساحة الفعل السياسي، وظهور هذا التراجعات إلى العلن، من شأنه أن يفتح الطريق نحو إعادة رسم خارطة قوى المعارضة السياسية السورية، وهو ما يدفع الأمور قدماً باتجاه الحل السياسي.
رابعاً، إنّ لوحة التخريب الأمريكي اعتمدت على إيجاد استقطاب حاد يؤدي لصدام سياسي وعسكري وإنّ استمرار هذا الاستقطاب هو ضمانة لاستمرار الحرب والاستنزاف. عبرت هذه اللوحة عن نفسها في سورية بأشكال وثنائيات تضليلية متعددة: (نظام- ائتلاف)، (موال- معارض)، (حسم- إسقاط) وإلخ. وحين يسقط أحد "القطبين" فإنّ الاستقطاب نفسه يزول، ما يعني أنّ اضمحلال الائتلاف وضموره سيفتح الطريق ليس لإعادة رسم خارطة القوى المعارضة فقط، بل لإعادة رسم خارطة القوى السياسية السورية جميعها، ضمن حل سياسي يؤمن المناخ المناسب لفرز وطني عميق مضمونه التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل السياسي والاقتصادي- الاجتماعي، فرز يتجاوز ثنائية (نظام- معارضة) بشكلها الحالي.
خامساً، إنّ تهتك وضع الائتلاف و«الإخوان» ضمناً، وإنهاء الاستقطاب القائم بينه وبين النظام لمصلحة فرز وطني عميق، سيوفر المنصة العملية لمحاربة الإرهاب وإنهائه عبر تأمين الحد المطلوب من الوحدة الوطنية لإنجاز هذا الاستحقاق، وذلك في إطار الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً تمهيداً للانتقال من الممانعة نحو المقاومة وصولاً إلى التحرير وتثبيت الموقع التاريخي لسورية في عدائها لواشنطن وللغرب الاستعماري.
إن جملة هذه المعاني والدلالات لها من يفهمها ومن لا يفهمها، مثلما لها من يريدها ومن يرفضها ويعاندها، ولكنها تشكل التحولات الجارية موضوعياً في مسار بدء انتقال الأزمة السورية من الإحداثيات الميدانية العسكرية الصرفة إلى الإحداثيات السياسية بالدرجة الأولى، حقناً لدماء السوريين مع وضع حد لتفاقم كارثتهم الإنسانية، ووقفاً للعنف والتدخل الخارجي، عبر مسار سياسي يكون على جدول أعماله حل جميع الملفات العالقة والمستجدة أمام المواطن السوري، الذي تتغنى جميع القوى السياسية في «الموالاة- والمعارضة» اليوم بالحديث باسمه ونيابة عنه.