الروس يحضّرون لـ«جنيف» والإعلام يحضّر لـ«موسكو1»!!
ارتفع نشاط جملة من الوسائل الإعلامية المحسوبة على النظام السوري أو على أطرافٍ متشددة منه بما فيها فضائيات وصحف منها معروفة و«ذات تاريخ»، بالتوازي مع الوسائل المحسوبة على المعارضة، منذ الإعلان عن دعوة روسيا لوزير الخارجية السورية إلى موسكو للتباحث بإحياء مسار الحل السياسي.
بدأ «النشاط المرتفع» إياه، بالحديث عن «مبادرة روسية» وعن «موسكو1» في الوقت الذي أسمى الروس مساعيهم «جهداً وأفكاراً» وكرروا إصرارهم على «جنيف1» على لسان السيدين لافروف ثم بوتين وكذلك «جنيف3» على لسان السيد بوغدانوف، فلماذا هذا التباين، بل التضاد؟
هرباً من «جنيف»!
إنّ القول بحل الأزمة السورية في «موسكو1» أو عبر «مبادرة روسية» يعني ضمناً إما تجاهلاً لواشنطن وتأثيرها وتأثير حلفائها في الأزمة السورية، أو افتراضاً بانعدام ذلك التأثير، وكلا الأمرين وهم مناقض لواقع الأمور وللتوازن الدولي القائم. وإذا كان من غير الممكن بناء أي شيء حقيقي على وهم، فإنّ التكرار الهستيري للحديث عن أوهام من قبيل «موسكو1» و«المبادرة الروسية» يبتغي في عمقه شيئاً واحداً هو استبعاد الأساس الحقيقي الذي يشتغل عليه الروس، أي «جنيف»، ويستهدف جانبياً تقديم إيحاء بأنّ أحد طرفي الحوار-النظام- ذاهب إلى «موسكو1» وهو منتصر مسبقاً، الأمر الذي قد يدب الخلاف في صفوف الطرف الآخر ويحمله مسؤولية الفشل والتأجيل المستمرين.. وتالياً يمكن تمديد عمر الأزمة بغرض تأجيل التغييرات المستحقة وإن كان الثمن مزيداً من الاستنزاف والدم.
إنّ المتابع لتصريحات المسؤولين الروسيين بنصوصها ولغاتها الأصلية، والتي تعرضت لعمليات تحريف وحذف واجتزاء بالجملة، عملت «قاسيون» الجريدة والموقع الالكتروني، على تداركها جزئياً بنشر ترجمات عن الروسية لجملة من التصريحات والفعاليات (راجع العددين السابقين ومنشورات موقع قاسيون)، إنّ متابع النصوص والتصريحات الأصلية سيتمكن من تشكيل قناعة راسخة بأنّ الروس يفهمون بعمق طبيعة التوازن الدولي القائم، ويسعون للعب دور وسيط نزيه بين المعارضة والنظام في قطع مع الطريقة الأمريكية المنحازة، ويأخذون بعين الاعتبار ضرورة إشراك الجميع وضرورة التوصل إلى توافقات الحد الأدنى بين الجميع، ولذلك فهم يصرون على الانطلاق من الوثيقة الوحيدة -حتى الآن- التي حازت توافق الأطراف الأساسية، أي وثيقة «جنيف1».. هذا ما أكده مثلاً السيد بوتين في تصريح لوكالة أناضول التركية بتاريخ 28 تشرين الثاني حيث قال: «روسيا تبذل جهدها منذ بداية الأزمة في سورية من أجل تسويتها سلمياً وسياسياً من السوريين بأنفسهم وعلى أساس بيان جنيف الصادر في 30 حزيران عام 2012»، الحديث الذي لم تعتبره وسائل الإعلام المشار إليها هاماً أو مفيداً، فحذفته من تغطيتها للتصريح المذكور.
أثاث وديكور للوهم!
ولكي يكتمل الفضاء الوهمي الذي يروجه الإعلام، لا بد من حواشٍ وتفاصيل إضافية تصب في الاتجاه ذاته، وعلى رأسها:
أولاً، «روسيا تسعى للتفرد بحل الأزمة السورية»، القول الذي يعطي إشارات واضحة الهدف نحو المعارضة لكي تحجم عن الاشتراك في الاجتماعات التحضيرية في موسكو، باعتبار أن الجميع يعرف أنّ الحل لا يمكن أن يجري إلا ضمن التوازن الدولي القائم. يهدف التركيز على هذه المقولة أيضاً إلى إثارة حفيظة حلفاء واشنطن الإقليميين ورفع درجة ممانعتهم –المرتفعة أصلاً- للجهود الروسية.. وقد نفى السيد لافروف هذه المقولة كلياً يوم الجمعة 5 كانون الأول بتصريح أطلقه من مدينة بازل بسويسرا حيث قال: «لقد ناقشنا الموضوع السوري مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وممثلة الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، والمبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي مستورا، وممثلين عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وجميعهم يدعمون جهودنا».. ومع ذلك استمرت وسائل الإعلام بتكرار المقولة ذاتها.
ثانياً، «الحل السياسي حاجة روسية وليس حاجة سورية»، «التقدم العسكري دليل على ذلك»، تحمل هاتان المقولتان طابع المناكفة والمزاودة فهما تفترضان واقعاً روسياً ضعيفاً مقابل حقيقة التقدم والتفوق الروسي، وتستخدم هاتان المقولتان بشكل متكررمن جهابذة التحليل السياسي الذين يترفعون عن الدم السوري وعن المعاناة السورية بحجة ضرورة التضحية من أجل الانتصار السياسي.. وبطبيعة الحال ليس المقصود هنا انتصار سورية ولكن انتصار طرف سياسي على آخر..
ثالثاً، «التقارب الأمريكي الإيراني عبر ملف النووي ربما يعزل روسيا، ولذلك فهي تحاول استعادة زمام المبادرة من البوابة السورية»! تنفع هذه المقولة بوصفها نكتة الموسم الإعلامي، فكأن الحديث يجري عن عزل دولة هامشية مثل قطر أو حتى إقليمية مثل تركيا!! إنّ التقدم في الملف النووي الإيراني ما كان ليحدث إلا بوصفه تعبيراً أولياً عن التوازن الدولي الجديد الذي تحتل فيه روسيا والصين موقع المنافس الصاعد والأهم للقطب الأوحد الأمريكي. وقد جرى هذا التقدم بجهود مشتركة روسية وإيرانية، وترافق بتعمق العلاقة وتجذرها بين الدولتين على المستويات المختلفة بدءاً من المفاعلات النووية نفسها ومروراً بالجوانب الاقتصادية والعسكرية المختلفة. بغض النظر عن كونها «نكتة»، ولكن المقولة السابقة تحاول استيلاد قناعات خاطئة عن وجود انقسامات في صف القوى المناصرة للحل السياسي الأمر الذي من شأنه أن يضعف الحل السياسي نفسه في نهاية المطاف.
الحقيقة واحدة
إنّ كثافة التضليل الذي تمارسه وسائل إعلامية محسوبة على الموالاة وأخرى محسوبة على المعارضة في الوقت الراهن، تؤكد الضيق الذي تعيشه الأطراف المتشددة، وذعرها من عودة الحل السياسي الذي من شأنه أن يخفض صوت الرصاص الذي يغطي حالياً على أصوات السوريين المطالبة بوقف النزيف وبالخروج من المستنقع وبالذهاب إلى تغييرات جدية تسمح لهذا البلد ولهذا الشعب العريقين بالاستمرار..
إنّ الحقيقة التي لن يتمكن الإعلام من تغييرها، وإن حاول التأثير عليها، هي نضوج الظروف الموضوعية والذاتية للذهاب إلى الحل السياسي الحقيقي، الذي لن ينتصر بموجبه طرف سياسي على آخر، بل سينتصر الشعب السوري بخروجه من الأزمة الكارثية العميقة التي يعيشها، وبانفتاح الأفق أمامه نحو إعادة إعمار دولته قانونياً وسياسياً واقتصادياً وديمقراطياً على أسس المعاداة للإمبريالية الأمريكية ولأدواتها الصهيونية والداعشية وشبيهاتها وصولاً إلى تحقيق الأهداف المعلقة في تحرير الأراضي المحتلة، والوصول إلى التعددية والحريات السياسية الحقيقية التي تؤمن منصة واقعية للنضال السياسي الشعبي الواسع ضد الفساد الكبير الذي استباح البلاد والعباد، ونحو صداقة وإخاء وتعاون بين شعوب مستقلة وسيدة. إنّ لقاءات موسكو في الطريق إلى جنيف، ستشكل فاتحة لمعركة سياسية وطنية جدية، وهو المطلوب.