تفاهم «التنسيق» و«التغيير».. معاني ودلالات
ترك توقيع مذكرة التفاهم بين جبهة التغيير والتحرير، وهيئة التنسيق الوطنية ردود أفعال مختلفة، عبرت عن تناقضات القوى السياسية السورية ودورها في الأزمة ورؤيتها للحل، خريطة الآراء حول مذكرة التفاهم تضمنت المشكك بها والنظر إليها على أنها مجرد إعلان على ورق لايقدم ولا يؤخر، وبين من رآها خيط نور في آخر النفق المعتم، وبين من رفض الفكرة وعبر عن موقفه من خلال منع وصول ممثلي وسائل الإعلام إلى مكان انعقاد المؤتمر من الأجهزة الأمنية، في محاولة للتعتيم عليه من جهة، وإرسال رسائل متعددة إلى الموقعين عليه من جهة أخرى.
وعلى كل حال المذكرة أطلقت، والخطوة الأولى نحو تحالف سياسي بين أبرز قوتين معارضتين في الداخل خلال سني الأزمة أنجزت..فما هي معاني ودلالات إطلاق هذه المذكرة، وما هي أهميتها؟
• تعبر المذكرة عن حقيقة أساسية طالما حاولت جهات عديدة دولية واقليمية ومحلية تغييبها خلال سني الأزمة مفادها وجود قوى وطنية سورية داخلية معارضة تسعى إلى التغيير الجذري والشامل بعيداً عن التدخل الخارجي، أي جاءت كسراً لتلك الصورة النمطية التي حاولت القوى الدولية الغربية تحديداً فرضها على الوعي الاجتماعي، وهي إن شعوب المنطقة ستسقبل القوى الغربية بالورد في مواجهة الأنظمة، حتى لو تطلب الأمر احتلالاً مباشراً، فالقوى الموقعة على المذكرة عدا عن أنها قوى معارضة سلمية للنظام وتسعى إلى التغيير، هي في الوقت نفسه قوى معارضة للتدخل الخارجي كما عبرت مذكرة التفاهم نفسها عن ذلك، إذا فالمذكرة والحال هذه عززت حقيقة وجود خيار واقعي آخر غير ثنائية النظام أو التدخل الخارجي.
• في ظل الصراع المسلح بين الجيش العربي السوري، والجماعات المسلحة التي جاهرت أغلبها بالتواطؤ والارتزاق على موائد القوى الدولية والإقليمية، والتي أصبحت أداة علنية من أدوات مشروع «الفوضى الخلاقة» وما قامت به من ممارسات وحشية وبدائية، وفي ظل محاولات فرض ما يسمى «الائتلاف الوطني» المرتبط باجندات إقليمية ودولية كقوة «معارضة» وحيدة، و«ناطق» حصري باسم الشعب السوري، واستمرار النظام في سياساته القائمة على الحسم العسكري فقط واستعصاء الوضع، جاءت مذكرة التفاهم لتكسر هذه المعادلة، وتحرك حالة «الستاتيك» القائمة، وتطيح بفكرة محدودية الخيارات، بل فتحت الطريق على خيارات توافقية ترفض خطر داعش وشقيقاتها كممثلين للفاشية الجديدة على المستوى العالمي ويعاديها من جهة، ومن جهة أخرى يسعى إلى تغيير نظام وصلت البلاد إلى ما وصلت إليه في ظل سياساته الاقتصادية الاجتماعية، وبسبب نظرته الأحادية الضيقة وطريقة تعاطيه مع الأزمة.
• تعتبر القوى الموقعة على مذكرة التفاهم من حيث البنية والتكوين والسياسات قوى وطنية سورية بامتياز، وبالتالي هي ليست قوى منتمية إلى البنى التقليدية ما قبل الوطنية من طائفية وعرقية وقبلية، وهي في هذه الحالة قوة ردع موضوعية لكل محاولات التقسيم والتفتيت والمحاصصة، أي أنها قوى جامعة تعبر موضوعياً عن مصالح الشعب السوري العميقة، وبالتالي فإن المذكرة وضعت أساساً جديداً لإمكانية بلورة كتلة وطنية شعبية سورية تتجاوز الانقسامات المشوهة، وتشكل قوة توازن في ظل تنامي شبح التطرف والطائفية.
• القيمة المطلقة والجوهرية في مذكرة التفاهم هي الدعوة إلى حل الأزمة سلمياً، عن طريق الحوار الوطني بين السوريين، أي أن المذكرة كانت بمعنى ما إعلاناً عن وجود قوة وطنية سورية معارضة مستعدة أن تحاور النظام بعيداً عن أوهام الإسقاط، ودون أن ترتمي في أحضان الخارج كما فعل ما يسمى «الائتلاف الوطني»، وبذلك قطع الطريق على بعض الموالاة المتشددة، وبعض الأطراف الخارجية، وإدعاءاتها بعدم وجود معارضة موحدة يمكن الحوار معها، فالبرنامج الوطني للتغيير بات متبلوراً، والكتلة السياسية المعبرة عنها باتت مشخصة، من خلال تفاهم بين قوى سياسية لن تفلح المحاولات البائسة في التشكيك بوطنيتها وموقفها من المشاريع الاستعمارية المعادية سواء من جهة تاريخها، أو مواقفها خلال الأزمة الحالية، أو ما تضمنته مذكرة التفاهم نفسها، أوشبكة علاقاتها الدولية والإقليمية الحالية مع تلك الدول التي كانت حريصة على سورية دولة وشعباً وحريصة على دورها الوطني التاريخي.
نختصر ونقول: إن مذكرة التفاهم بما تتضمنه من رؤى وأهداف يمكن ويجب أن تكون أداة لكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها البلاد، فهي تعبر عن مزاج ومصلحة أغلبية السوريين خارج ثنائية الاستقطابات المشوهة، وهي متوافقة مع سعي القوى الدولية الحليفة لسورية لإيجاد مخرج سلمي للأزمة، وهي لاتستثني أحداً من الانخراط في المشروع الوطني، فهي تجمع بين العقلانية في الطرح، والدقة في التشخيص، والإبداع في طرح الحلول.