«الدردرية الجديدة» وعقيدة الصدمة
الجندي الذي يجرح في أرض معركة حامية قد لا يشعر بالألم حتى تنتهي المعركة، مثلما يمكن أن يتأخر شعور الرياضي بإصابة جسدية بليغة أثناء انهماكه بمجهود لعب عنيف. هذه الظاهرة تعرف في علم البيولوجيا باسم «خدَر الصدمة»، وتفسر بأنّ الأعصاب التي تنقل حس الألم إلى الدماغ تكون مشغولة بنقل أنواع أخرى من الإحساسات التي تسببها الصدمة مثل الضغط والاحتكاك، فيقلّ إحساس الجسم بالألم رغم وجود العامل المؤذي المسبب للألم.
في علم النفس والاجتماع توجد ظواهر مماثلة، يدخل فيها الفرد والمجتمع في حالة تشبه خدر أواستكانة وضعف مؤقتة بعد التعرض إلى صدمة قوية، تهز كيانه بقوة. لكن هذه الآلية التي يبدو أنها تطورت كنوع من تكيف البشر الطبيعي لتحمّل الكوارث والمصائب، أجرى عليها الأشرار من البشر تجارب طويلة في ميادين علوم الطب والنفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة، ووصلوا إلى تطبيقات عملية تخدم أهداف الرأسمالية وتساعدها في تشديد استغلالها للشعوب والمنتجين. وظهرت أهم هذه التطبيقات مع صعود الليبرالية الجديدة وما تحمله من إفقار وخطط تقشف، بحيث تؤمن لها تمرير سياساتها هذه بأقل ألم ممكن في البداية وبالتالي بأقل ردود فعل ومقاومة أو احتجاج من قبل الشعوب المتضررة منها، ريثما يكون «من ضرب ضرب ومن هرب هرب».
«ميلتون فريدمان» وعقيدته
في العام 1951 عقد اجتماع سري لممثلي وكالات استخبارات غربية مع علماء من جامعة «ماكفيل» لدراسة نتائج تجارب نفسية عصبية أجريت حول «آثار الحرمان من الحواس» عند البشر تضمنت تطبيق صدمات كهربائية، وتكرار رسائل مسجلة مرات عدة ذات مضمون محبط، وتقنيات أخرى، وخلصت إلى نتائج استخدمتها واعتمدت عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في أحد تطبيقاتها على السجناء والمعتقلين، حيث يرد في أحد كتيباتها: «إنّ تطبيق الصدمة يجعل الخاضعين لها أكثر قابلية لتقبل الإيحاءات، وللإذعان أكثر مما كانوا عليه قبل تطبيقها.»
بعد الأزمة الاقتصادية – الكساد العظيم – الذي ضرب الاقتصاد الرأسمالي في أمريكا عام 1929 ، ومع مطلع ثلاثينات القرن العشرين اعتمد الرئيس الأمريكي روزفلت على مبادئ الاقتصادي «جون ماينارد كينيز» في توفير الخدمات والتشغيل ودور كبير للدولة الرأسمالية في ضبط الاقتصاد والأسواق، في حين برز من معارضي هذا الاتجاه «ميلتون فريدمان» الدكتور في الاقتصاد في جامعة شيكاغو، والذي نظّر لتحرير الأسواق وأنّ «الاقتصاد سيصلح نفسه بنفسه» حسب تعبيره. في العام 2002 قام البيت الأبيض باستضافة ميلتون فريدمان للاحتفال بعيد ميلاده التسعين، و قال دونالد رامسفيلد في الاحتفال: «إن ميلتون هو تجسيد لحقيقة معينة وهي أنّ الأفكار لها عواقب.» ينطوي كلام رامسفيلد هذا على مغزى صحيح ومعروف في الماركسية وهو أهمية العقائد والأفكار، ومنها الاقتصادية، عندما تصبح سائدة وتتحول إلى قوة مادية مؤثرة.
في العام 2007 ألفت الكاتبة نعومي كلاين كتابها الشهير «عقيدة الصدمة». وبعد اندلاع الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الكبرى عام 2008 ألقت محاضرة في جامعة شيكاغو، مما قالته فيها: «فرضية عقيدة الصدمة تقوم على إقناعنا برواية خرافية تتعلق بكيفية اكتساح هذه السياسات المتطرفة للعالم. إنها لم تكتسح العالم مسلحة بالحرية والديمقراطية، بل احتاجت إلى صدمات، وأزمات وحالات طوارئ. لقد فهم ميلتون فريدمان كيفية الانتفاع من الأزمات، إذ يقول:» وحدها الأزمة الحقيقية أو المتوقعة تُحدث التغيير الحقيقي، وحين تحصل أزمة، فإنّ الخطوات المتبعة تتوقف على الأفكار الموجودة مسبقاً.”
«الدردري» والأزمة المتوقعة
بمراجعة الأزمة السورية حتى الآن نلاحظ فعلاً أنّ الخطوات التي اتبعها النظام مثلاً في محاولته حل الأزمة فقط عبر الطرق الأمنية العسكرية المعزولة عن إطار شامل مناسب ومتكامل سياسي واقتصادي-اجتماعي ديمقراطي. إنما اعتمد على الأفكار الموجودة مسبقاً في ذاكرته التاريخية البعيدة والمتوسطة. وحتى في مواجهة العواقب الاقتصادية المركّبة الناتجة عن تشابك الدمار المستجد للبنية التحتية للاقتصاد المرتبط بالحرب والأزمة، مع نتائج التراجع الاقتصادي السابق للأزمة، إنما اعتمد ومازال على الأفكار الاقتصادية «الموجودة مسبقاً»، والحقيقة أنها لم تنوجد عفوياً وبشكل بريء مطلقاً، بل أدخلت وأقحمت بشكل أجنبي وخارجي من مدرسة «الليبرالية الجديدة» العالمية، ووصفات المؤسسات الإمبريالية من صندوق نقد دولي وبنك دولي ومنظمة التجارة العالمية.. وأصبحت هي العقيدة السائدة بشكل صريح منذ العام 2005 مع عرابها النائب الاقتصادي “عبد الله الدردري”، رغم أنّ بداياتها الخجولة بزغت بالفعل قبل ذلك، على الأقل مع صدور قانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991. ومن المعروف بأنّ الأفكار الموجودة مسبقاً لدى المعارضة الليبرالية، وخاصة المصنّعة أمريكياً وغربياً، ليست أفضل بل تنهل من النهج «الليبرالي الجديد» نفسه وهي مدانة بهذا بالقدر نفسه، لكن الكلام هنا يدور حول قوى فساد متنفذة ومؤثرة في صناعة القرار.
«الدردرية الجديدة» و«الأزمة الصدمة»
كانت المرحلة السابقة من «الدردرية» 2005 - 2011، قد هزّت اقتصاد سورية وقلبت تربة مجتمعها، في حين أن اندلاع الأزمة وتطورها بعد العام 2011 يأتي بمثابة موسم حصاد من قبل كبار الفاسدين من المستثمرين والنهابين داخل وخارج الدولة، على شكل استثمار مباشر في اقتصاد الحرب بأدواته المختلفة، من المتاجرة بارتفاع الأسعار والحصار ونهب البنية التحتية وأدوات إنتاج القطاع العام، ومنازل المهجّرين وممتلكاتهم البسيطة ومعظمهم من الفقراء والعمال، ولم تسلم من ذلك حتى المشاريع الأصغر لجزء من القطاع الخاص، هذا عدا عن السمسرة أحياناً بالمعتقلين والمخطوفين وجثامين الضحايا.. كان ذلك استثمارا مباشراً في «ردّ الفعل»، ردّ فعل المجتمع والدولة على انفجار الأزمة. الطور التالي الذي يبدو أننا نشهد بدايته الآن، هو الاستثمار في «ضعف الفعل»، أي في الحالة المؤقتة من ضعف الفعل السياسي الإيجابي من جانب المجتمع والدولة والعالم لحلّ الأزمة السورية. وهي حالة توفرها ظروف الحرب والصدمات المادية والنفسية على المستوى الجمعي والفردي التي تعرض لها الشعب السوري خلال سنوات الأزمة «صدمة الأزمة»، والتي يبدو أنها بلغت في الأشهر القليلة الماضية الظرف المؤاتي المطلوب من حيث الشدة والاتساع والتوقيت: فالإرهاب الفاشي أقام دولته «داعش»، الحل السياسي ومقتضياته الدولية في حالة تجميد مؤقت بفعل خارجي من عرقلة أمريكا وحلفائها وأدواتها الذين أشعلوا في أوكرانيا بؤرة حريق جديدة على خارطة العالم، وتجاوب داخلي مع هذا التجميد من جانب كلّ القوى التي لا مصلحة لها بحل سياسي حقيقي.
فتوفرت على أثر ذلك جميع شروط الصدمة المركّبة اللازمة لكسر وإخضاع مقاومة المجتمع والوصول به إلى حالة من الشلل والخدر«التِّمساحيّة» تسمح بتمرير حزمة جديدة من «الليبرالية الجديدة» أكثر قسوة وأشد سفوراً وأعلى نهباً من كلّ ما سبق، تتجاوز خطوطاً حمراء لم يكن يجرؤ على تجاوزها أحد، وليس رفع أسعار الخبز من 9 إلى 15 ل.س. سوى البداية فقط لهذه «الدردرية الجديدة» كما يبدو، التي تثير موضوعياً كثيراً من التساؤلات والشكوك حولها وفق المعايير الوطنية، ولاسيما في تزامنها مع تصاعد موجة «الفاشية الجديدة» عالمياً، ونشاط شكلها المحلي-الإقليمي «داعش»، كما يجب أن لا نسقط من ترابط الأحداث والأهداف أيضاً الموجة العدوانية الجديدة التي تشنها اليوم إحدى الأشكال المستمرة من الفاشية القديمة «إسرائيل» ضدّ الشعب الفلسطيني بوصفه أهم أسس ورموز المقاومة الشعبية ضدّ الإمبريالية والصهيونية في المنطقة، كونه ما يزال صامداً رغم جميع الصدمات والنكسات.
وكما يبدو أنّ نجاح مهمة القوى الفاشية لا يعتمد فقط على نشاطها الخاص، الذي يدار حكماً من أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية، بل باستغلال طريقة التعاطي العملي والإعلامي مع نشاطها الفاشي، والذي يخدمها أحياناً عن وعي أو غير وعي، لنتذكر أنّ التكرار المستمر للرسائل الإعلامية التي تحمل مضامين محبطة دموية ومرهبة للجمهور، يخلق بحد ذاته الصدمة في وعي الناس العاديين، وربما يصل إلى إخضاعهم وإقناعهم بتدهور مستوى حياتهم الاقتصادي بفعل النهب والفساد الممكن محاربته بقرار سياسي وفعل شعبي، وتقبلهم لمنطق مقلوب من قبيل «أهون الشرّين»، أو»قطع الأرزاق ولا قطع الأعناق»! لكن في الواقع حقائق أخرى، وهي حكماً تزعج أصحاب «عقيدة الصدمة» والمنتفعين منها من فاسدي الداخل، وأعداء الخارج، وهي أنّ ثمّة قوى شعبية ووطنية حية وواعية لهذه الألاعيب، ولا بد أن ترص صفوفها في مواجهتها، والانتصار عليها.