من جديد.. التلاعب بـ«الورقة الكردية»

من جديد.. التلاعب بـ«الورقة الكردية»

أعادت التطورات العراقية الأخيرة المسألة الكردية إلى الواجهة، وأنعشت الحديث عن «دولة كردية»، حيث بدأت الأطراف الدولية والإقليمية المختلفة بتقديم إشارات وطروحات متباينة ومتناقضة، ترافقت مع تكثيف «غزوات داعش» على مناطق الكثافة الكردية في سورية (عين عرب/ كوباني في الأيام القليلة الماضية)، وعلى العكس من ذلك تستمر حالة هدنة غير معلنة ومؤقتة مع داعش في إقليم كردستان في العراق، بل يجري الحديث أيضاً عن تعاون أمني مع جناح البارزاني..

تركيا (العدو التاريخي للأكراد) ترسل إشارات متناقضة بينها إشارات بدعم قيام دولة كردية في إقليم كردستان العراق!، الكيان الصهيوني (العدو التاريخي لجميع شعوب المنطقة) يدعم علناً، وأمريكا ترسل إشارات مختلفة ومن مواقع مختلفة تحمل اشارات متعاكسة ومتناقضة بين الدعم والرفض. المتعصبون العروبيون يلقون ما في جوفهم من شوفينية قومية في وجه الأكراد مستندين إلى مواقف وتصريحات البارزاني، وإلى التأييد العلني الذي يلقاه هذا الأخير من الأمريكان والصهاينة والأتراك. تتزاحم عناصر المشهد وتتعقد باضطراد حتى ليصعب تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وينبغي لذلك الانطلاق من ثوابت اللوحة العامة للمسألة الكردية ومن ثوابت الصراع الجاري في المنطقة لوضع المتغيرات الأخيرة في سياقها..
أولاً، وقبل كل شيء، ينبغي الفصل بشكل واضح بين مواقف هذه الزعامة الكردية أو تلك، وبين المصالح العميقة للأكراد، سواء في سورية أو في العراق أو في تركيا أو في إيران. فقد أثبت التاريخ المرير للمسألة الكردية أنّ التناقضات بين تلك الزعامات نتيجة وقوعها ضمن تجاذبات المشاريع الإقليمية والدولية المختلفة قد ولّد من الصراعات الكردية- الكردية ما أودى بحياة الآلاف من الأكراد، حتى أنّ ضحايا الصراعات الداخلية الكردية أكثر بكثير من ضحايا صراعاتهم الأخرى مجتمعة!
ثانياً، إنّ بقاء المسألة الكردية معلقة دون حلول حتى يومنا الحاضر (وهي بالمناسبة واحدة من عديد المسائل المعلقة التي تخص شعوب المنطقة كلها لا بوصفها قوميات وأدياناً وطوائف، ولكن بوصفها شعوباً مضطهدة ومفقرة من أنظمتها ومن الاستعمار الغربي قديمه وحديثه)، إنّ بقاءها معلقةً يعود لعاملين متكاملين، أولهما هو شكل سايكس- بيكو الذي تقصّد إبقاء الأكراد بتوزعهم الحالي ليجعل منهم نقطة توتر وتجاذب قابلة للاشتعال بأية لحظة (وهذا لا يعني أن المشكلة كانت ستحل لو أنّ سايكس- بيكو خصص دولة للأكراد، فهذه المشكلة كانت ستبقى قائمة ولكن بأشكال أخرى، وهذا ما سيتوضح في العامل الثاني..)، وثانيهما هو طريقة تعامل أنظمة المنطقة البرجوازية وذات الطابع القومي العربي والتركي مع المسألة الكردية (وأيضاً «القيادات الكردية المتنفذة» حالياً في إقليم كردستان العراق الذي تابع سياسات الفساد والنهب والاضطهاد ضد الأكراد كما تفعل الأنظمة القومية العربية مع الشعوب العربية)، حيث تتعرض الأغلبية الفقيرة من الأكراد لما تتعرض له الأغلبية الفقيرة من شعوب المنطقة من نهب لقوتها وعملها ومن كتم لحرياتها السياسية، ويضاف إلى ذلك الاضطهاد القومي الطابع بعدم منحهم حقوقهم.
ثالثاً، إنّ حقيقة عداء واشنطن والصهاينة وحلفائهم للأكراد، هي جزء من حقيقة أكبر هي عداء الرأسمالية العالمية لشعوب العالم جميعه ولشعوب منطقتنا ضمناً، وهذا واقع لا يبدله تعامل هذه الزعامة الكردية أو تلك، بالقدر نفسه الذي لم تبدل فيه خيانة السادات (مثلاً) عداء الشعب المصري للكيان الصهيوني. ولذلك فإنّ أيّ متبجح يستغل مواقف البارزاني أو غيره ليصوغ موقفاً شوفينياً أحمق معادياً للأكراد مستنداً في الظاهر إلى «موقف وطني معاد للغرب»، إنما يخدم المصلحة الأمريكية- الصهيونية المباشرة في تأليب شعوب المنطقة بعضها على بعض في إطار إحراقها وإحراق بلدانها بالصراعات الداخلية.
رابعاً، إنّ الأطراف الإقليمية المختلفة، وفي إطار أزماتها الداخلية المتفاقمة التي تشكل امتداداً لأزمة النظام الرأسمالي ككل، تلاعبت مراراً بالمسألة الكردية بوصفها ورقة ضغط، وفي هذا السياق فإنّ مواقف هذه الأطراف المعلنة من المسألة الكردية تقلبت وستتقلب باستمرار وفقاً لمجريات الصراع، فهي تارة نصير لدولة كردية وتارة عدو لها، مرةً تحجب الحقوق الثقافية ومرة تمنحها، ولكن الأكيد أن الموقف الحقيقي المستمر هو تضاد هذه الأنظمة مع مصالح المنهوبين والفقراء من الأكراد، سواءً بسواء مع موقف هذه الأنظمة من إجمالي الأغلبية الفقيرة في بلدانها، فهي أنظمة برجوازية الطابع من حيث واقع التطبيق العملي أياً كان ما تقوله عن نفسها.
خامساً، إنّ تكريس الظلم القومي ضد الأكراد إضافة إلى الظلم الطبقي العام لشعوب المنطقة، يهدف إلى توليد النزعات القومية الشوفينية لدى جماهير الأكراد باستمرار، والتي تسمح بدورها للزعامات الكردية البرجوازية بالاستمرار من جهة، ومن جهة أخرى بإبقاء البحث عن «دولة كردية» ما حلماً تستخدمه الأطراف المختلفة حسب الظروف لتزج الشعوب ضمن صراعات دموية تنفس من خلالها عن أزماتها، علماً أن افتراض دولة كردية بالمعطيات البرجوازية والرأسمالية لا يشكل حلاً حقيقياً ولا نهائياً للمسألة الكردية، وكردستان العراق مثال بيّن في هذا السياق (البرجوازيون الأكراد يحكمون، ويسومون الأغلبية الكردية الفقيرة شتى صنوف الظلم الطبقي والسياسي التي كانوا يسامونها أيام صدام وقبل ذلك)، ولا غرابة في ذلك فالدول «القومية العربية» ذاتها، لم تشكل حلاً حقيقياً ولا نهائياً للشعوب العربية التي خرجت من عباءة العثماني وتحررت من المستعمر الغربي لتدخل في عباءة الأنظمة البرجوازية المستغلة. تدفعنا هذه الحقائق إلى استنتاجين أساسيين: الأول هو أن المسألة الكردية هي جزء لا يتجزأ من مشكلات شعوب المنطقة جميعها، ولا يمكن حلّها بالتالي إلا في سياق حل مشكلات هذه الشعوب مجتمعة. أما الاستنتاج الثاني فيقول: بما أنّ مشكلة شعوب المنطقة الأساسية تتكثف في جانبين (السياسات الاستعمارية الغربية والصهيونية من جهة، وتخلف الأنظمة القائمة وظلمها الطبقي وكبتها لحريات الشعوب من جهة أخرى) فإنّ حل المسألة الكردية وحل مشكلة شعوب المنطقة مجتمعة، تتحقق في النضال على جبهتين وضمن صف واحد: ضد السياسات الغربية جملة وتفصيلاً، ولتغيير الأنظمة القائمة تغييراً جذرياً شاملاً يسمح ببناء أنظمة جديدة تلتزم جانب الطبقات المفقرة والمنهوبة وتدافع عنها وتقف بحزم ضد الغرب الإمبريالي- الصهيوني، وترسي بالتالي علاقات الإخاء والتعاون الصادق والحقيقي بين شعوب المنطقة.
بناءً على ما تقدم، فإنّ ما يجري التمهيد له حالياً هو طور جديد من الصراعات الكردية- الكردية، والكردية- العربية، الأمر الذي يشكل نقطة التقاء لأطراف إقليمية مختلفة ومن ورائهم الطرف الأمريكي- الصهيوني، كل من منظوره وفي خدمة أهدافه ومشاريعه الخاصة.

آخر تعديل على الثلاثاء, 15 تموز/يوليو 2014 11:22