أخذ زمام المبادرة..

أخذ زمام المبادرة..

مضى على تعطيل «واشنطن» لمؤتمر «جنيف» حول الأزمة السورية أكثر من أربعة أشهر، دخلت في حينه الأزمة الأوكرانية على خط الأحداث لتضع «إطار جنيف للحل» جانباً، حتى الآن. 

وإن كانت واشنطن تقوم «بترتيباتها» الخاصة بالمعنى العسكري الميداني على الأرض السورية، من ضبط وتركيز وتجميع للقوى، إلا أنها تفعل ذلك في إطار محاولة «تعديل ميزان القوى ميدانياً» الذي تريد منه وضعاً تفاوضياً أفضل «على الطاولة». ولكنها تصر على هذا «التعديل» وتعلق جنيف إلى أجل غير مسمى، طالما استطاعت ذلك، ليستمر النزيف السوري. 

إنّ جنيف بما يمثله من مدخل باتجاه الحل السياسي للأزمة السورية، وبمهماته الثلاث: «وقف التدخل الخارجي، وقف العنف، وتوفير مناخ إطلاق عملية سياسية سورية جدية»، لا يزال الطريق الوحيد نحو الخروج المتكامل من الأزمة السورية، وذلك انطلاقاً من واقع التدويل العالي الذي تتحرك ضمنه هذه الأزمة، ولكن هذا الطريق معطل أمريكياً اليوم. وإزاء ذلك، ما العمل الذي كان واجباً، وما يزال، منذ تعطيل جنيف؟ إن المهمة التي كانت قائمة منذ ذلك الحين وحتى الآن هي تقديم الإسهامات الجدية والنوعية لدفع مركز ثقل المسألة السورية نحو الداخل السوري مجدداً، بوصف ذلك شرطاً ضرورياً ولكنه غير كاف وحده، بحكم درجة التدويل المذكورة أعلاه. أي إنجاز خطوات ملموسة على طريق حل الأزمة. وهذه المسألة ضرورة ومهمة وطنية من طراز رفيع، لأن عدم تحقيقها اليوم يعني ربط الأزمة السورية بمسار حسم الصراع على المستوى الدولي على المدى المتوسط، وإبقاء سورية وأزمتها ضمن معادلة الاستنزاف والإحراق من الداخل ومن الخارج لسنوات عديدة، لا تحتملها البلاد والناس، هي الوقت اللازم لترجمة التوازن الدولي الجديد بصيغته السياسية النهائية.

ثمة مهام واستحقاقات وطنية جدية ينبغي تنفيذها للإسهام في عملية إعادة مركز الثقل إلى الداخل وتالياً حل الأزمة. تلك المهام هي كل ما يمكن إنجازه بعيداً عن الخارج وتجاذباته، بمعنى أن على السوريين أخذ زمام المبادرة السياسية داخلياً، بين كل المستعدين للحل السياسي سواء من النظام أم المعارضة أم المسلحين السوريين، عبر طاولة حوار جدي وندي ومتلفز، يدرج على جدول أعمالها إدخال التعديلات الدستورية المطلوبة لإعادة توزيع الصلاحيات بين رئاسة الجمهورية ومحلس الشعب ومجلس الوزراء ومجلس القضاء الأعلى، مثلما يدرج على جدول أعمال تلك الطاولة أيضاً كل ما يسمح بتخفيف مستوى العنف، وبتوسيع التسويات والهدنات الجارية وتعميقها لتتحول إلى مصالحات وطنية فعلية وملموسة وناجزة، وحل قضايا المعتقلين والمخطوفين والمفقودين، وتجهيز ما يلزم لعودة النازحين واللاجئين للأماكن التي تمكن عودتهم إليها، وتوحيد جهود السوريين بالداخل، دولةً ومجتمعاً، «معارضة وموالاة»، في مكافحة ذات طابع وطني للإرهاب والتكفير، إلى جانب حل مشكلة فوضى السلاح وحصره بالمؤسسة المعنية بضمان الوحدة الوطنية، متمثلة بالجيش العربي السوري، ناهيك عن التوافق على خط وطبيعة التنمية الاقتصادية الاجتماعية المطلوبة في البلاد، ونقل شعارات مكافحة الفساد إلى حيز التطبيق، وعبر إشراك فعلي للمجتمع وعموم المتضررين بهذه العملية، وصولاً إلى بداية رسم ملامح سورية الجديدة. 

إن كل ذلك ممكن وضروري بغية التجهيز لحضور وطني أقوى مقابل واشنطن وحلفائها وأدواتها، في «جنيف» أو في أي إطار آخر،  والذي ستبقى مهمته وقف التدخل الخارجي بكل أشكاله، بما يفضي إلى وقف نهائي للعنف وتوفير المزيد من الأجواء الملائمة لإنجاح العملية السياسية السورية- السورية، بما يعنيه كل ذلك من توفير مقومات حل نهائي للأزمة السورية.

إنّ استغلال اللحظة الراهنة، لرفع وزن الداخل في المعارك اللاحقة، هي مسؤولية الجميع، وهي فرصة ما تزال قائمة حتى الآن ولا ينبغي تأخير التقاطها أكثر كيلا تتراجع حظوظها وتتحول إلى فرصة ضائعة أخرى تسهم بإحراق سورية، خدمة لأهداف أعدائها.