«الداخلي» و«الخارجي» في الوقت الدامي الضائع
سورية، بعيون السوريين الذين تقطعت بهم سبل الحياة بداخلها وخارجها بدرجات وأشكال مختلفة، هي كل شيء، كل العالم. ولكن سورية ذاتها بطبيعة الحال بالنسبة لغير السوريين هي أزمة أخرى، وجزء من لوحة عالمية كبيرة، ضمن ميزان قوى دولي جديد متشكل..!
والحال هكذا فإن ما ينغص عيش السوريين، أكثر من مجريات ووقائع معاناتهم وأزمتهم، هو تغييب ما استبشروا به خيراً من بروز أفق لحلها عبر جلسات مؤتمر جنيف في حينها على وقع تفجر أزمات أخرى، في أوكرانيا تحديداً.
تكامل وفصل
وعلى اعتبار أنه لا يمكن إسقاط وجهة نظر السوريين تجاه بلدهم، وكيفية نظر العالم لهذا البلد كجزء من لوحة كبرى، بصيغة فصل ميكانيكي قسري بين الداخل والخارج، فإن بعض الأسئلة تلح على أذهان المعنيين، كل من موقعه وغاياته، لجهة صياغة مخرج ما، ليبقى حدا التطرف في ذلك، تصوير إمكانية حل خارجي صرف يأتي بالدرجة الأولى عبر الاستقواء بالأجنبي، وهذا بطبيعة الحال مدان ومرفوض بالوجدان والموروث الشعبي الوطني السوري العفوي أو المتأطر سياسياً، مقابل تصور حل داخلي صرف، يتجاهل حجم التورط الدولي، ليكون وهماً يريد تثبيت وقائع معينة لن تصمد بالملموس أمام واقع التداخل بين «الداخلي» و«الخارجي» في الأزمة ومجرياتها وآفاقها، وبالأصل مسبباتها.
لقد حدد حزب الإرادة الشعبية لإنهاء الكارثة الإنسانية العاصفة بسورية، ومنع إعادة إنتاج الأزمة، صياغته لـ«قانون حل الأزمة» القائل بتلازم وتسلسل ثلاثية «وقف التدخل الخارجي بكل أشكاله (إدخال سلاح ومسلحين وتمويل)، ووقف العنف، أياً كانت مصادره، وإطلاق عملية سياسية شاملة بين السوريين، ترسم مستقبل البلاد عبر سلسلة توافقات وتسويات تضمن السيادة الوطنية ووحدة البلاد أرضاً وشعباً ومؤسسات، وتنجز المصالحة والمحاسبة الوطنية المطلوبة وعودة النازحين واللاجئين وحل قضايا المعتقلين والمخطوفين والمفقودين، وتضمن التغيير الجذري والشامل والعميق والتدريجي، سياسياً واقتصادياً اجتماعياً (لمصلحة السواد الأعظم من السوريين وليس أثريائهم) وديمقراطياً، والمستحق منذ عقود، عبر تغيير البنية القانونية والدستورية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية، وإعادة تحديد الصلاحيات، إلى آخر جملة القضايا المفترض بها أن تكون نتاجاً لتلك العملية السياسية، بعد رسم مساراتها القانونية والاجتماعية، والاقتصادية التنموية، بما يؤدي إلى اجتثاث فعلي للإرهاب والتكفير.
وإذا كان البند الثالث والأهم هو عملية سورية- سورية، إلا أنه لا يمكن أن يكون ناجعاً وناجزاً وله الديمومة، ما لم يتحقق البند الأول، المرتبط بالبعد الخارجي، (أي وقف التدخل)، بما يسمح بتحقيق البند الثاني (وقف العنف)، الذي يوفر، بدوره، أجواء تحقيق البند الثالث، عبر وقف الاستنزاف أولاً. ومن هنا أتت صفة «القانونية» أو العلاقة المنطقية.
«لا، ونعم»..!
السؤال المشروع اليوم على وقع استمرار الأزمة الكارثية والدامية والغياب الآني لهذا الشكل من الحل الشامل: «هل يمكن عكس الأولويات؟»، أي هل يمكن البدء بالعملية السياسية ثم وقف العنف ثم وقف التدخل الخارجي؟ الجواب هو «لا، ونعم»، لا، إذا كنا نريد حلاً ناجزاً، ونعم، إذا أردنا أن نقطع خطوات ملموسة باتجاه ذاك الحل وتخديمه، دون أن نصورها على أنها الحل بذاته، ضمن واقع درجة تدويل الأزمة، وحجم العنف ومساحته، وواقع تقطيع أوصال البلد وخروج مناطق ومحافظات بأكملها عن سلطة الدولة..!
وبهذا المعنى فقط، يمكن للقوى الوطنية السورية بالداخل، بمن فيها معتدلو النظام الساعون لحل جدي، أن تتنادى لحوار وطني شامل وصريح وندّي وجدي وهادف لإنهاء الكارثة والأزمة، لا يقوم على استقواء أحد بأحد أو على أحد، كي لا يشكل فرصة ضائعة أخرى وتحديداً من جانب النظام، تكون فيه الدولة وأجهزتها طرفاً مدافعاً عن الشعب كله، أي أنه حوار لتحديد مخارج داخلية ليس من موقع الإملاء واستكمال فرض الأمر الواقع، بل من موقع إدراك الأزمة وخطورتها وأسبابها وضرورة الخروج منها وإحداث التغيير وخلق اصطفاف وطني حقيقي بعيداً عن اصطفاف «موالي- معارض» بالمعنى المتطرف للكلمة، باتجاه خلق تعددية حقيقية منفتحة فعلياً على معنى التعددية وقبول منعكساتها، مع تحديد الإجراءات السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تعزز دور الدولة المتبقية، وارتباط المواطن بها، وليس بالنظام بالضرورة، وترك ذلك لخيارات الناس.
إن إنجاز ذلك سيشكل بالمحصلة، وبالتوازي مع تحولات المشهد الدولي، بما فيه في أوكرانيا ذاتها، ورقة ضغط على تلك القوى المعادية، وفي مقدمتها واشنطن وأجراؤها، باتجاه الركض نحو استئناف المسار السياسي للحل عبر جنيف أو غيره، كي تضمن بقاءها بالميدان، ولكن هذا يتطلب حسن نوايا الداخل بكل أطيافه أولاً.