التنبؤ العلمي
إن النبوءة العلمية هي أمر واقع وهي لا تأتي من فراغ أو بحسب الأمنيات والرغبات، بل هي حصيلة دراسات علمية عميقة ودقيقة للظواهر الطبيعية والاجتماعية ومعرفة القوانين الداخلية والخارجية لتلك الظواهر وتحليليها تحليلاً علمياً، وبالتالي توقع أو افتراض النتائج المتوقعة لتلك الظواهر بهذا المعنى تعني النبوءة العلمية أمرين اثنين وهما:
تفسير الظاهرة والتغيير المحتمل المستند للتفسير، وكلما كان التحليل للظاهرة صحيحاً كانت النتائج المتوقعة أو المفترضة صحيحة.
في سياق الظواهر الطبيعية يمكن تذكر نبوءة أو افتراضات العالم الروسي – مندلييف – في بداية القرن العشرين عندما كان يدرس الصفات الفيزيائية والكيميائية للعناصر المكونة للمادة، حيث تمكن من خلال دراسته العميقة لظاهرت الدورية في صفات العناصر من وضع الجدول الدوري للعناصر الكيميائية الذي يتألف من أعمدة وصفوف لكل منها صفاته. ومازال جدول مندلييف يدرس حتى يومنا هذا، لكن نبوءة مندلييف عند وضعه الجدول المذكور ترك سبعة أماكن شاغرة وتنبأ بوجود سبعة عناصر كيميائية ستشغل هذه الأماكن، وذهب أكثر من ذلك حيث حدد صفات تلك العناصر فيزيائياً وكيميائياً وفعلاً بعد زمن اكتشفت أربعة عناصر ومندلييف على قيد الحياة والثلاثة الأخرى بعد وفاته، وشغلت المواقع نفسها في الجدول التي تحدث عنها مندلييف. و كما في الظواهر الطبيعية كذلك في الظواهر الاجتماعية يمكن التنبؤ بنتائج ظاهرة اجتماعية فيما لو استخدمنا المنهج العلمي – المنهج الديالكتيكي – في التحليل الذي يمكننا من معرفة قانونية الظاهرة أي – تفسير الظاهرة – وبالتالي توقع أو التنبؤ – بالتغيير – المحتمل لتلك الظاهرة.
و هنا يمكن تذكر باحترام وإجلال كبير نبوءة العبقري فردريك أنجلس أحد مؤسسي العلم الماركسي عندما درس بعمق – ظاهرة الرأسمالية في مرحلة المزاحمة – ظاهرة الصراع بين الذئاب الرأسماليين على الثروة والأسواق وذلك بعد وفاة ماركس بأربع سنوات، حيث تنبأ بوقوع حرب عالمية بين هؤلاء الذئاب وقبل وقوعها بخمسة وعشرين عاماً حيث وصف تلك الحرب وتداعياتها بدقة متناهية، وكأنه كان يحضرها.
و إليكم ما كتبه فردريك أنجلس في العام 1887 في مقدمة كراس – سيغيسيموند بوركهايم – المقدم لذكرى الوطنيين المتطرفين الألمان 1806 – 1807: (والآن لم يبق أمام بروسيا – ألمانيا من حرب ممكنة غير حرب عالمية، وبالحقيقة حرب عالمية ذات مدى وعنف لا سابق لهما.
فإن 8 ملايين جندي أو 10 ملايين جندي سيتذابحون، وإذ ذاك يلتهمون كل أوربا ويمسحونها كما لم تفعل قط سحابة جراد.
تدميرات حرب 30 سنة مكدسة في 3 سنوات أو 4 سنوات، وموزعة في كل القارة، المجاعة، الهمجية التي تعم الجيوش وكذلك الجماهير الشعبية من جراء ضراوة، تشوش جهازنا الاصطناعي للتجارة والصناعة والتسليف تشوشاً لا مناص منه، وكل ذلك ينتهي بالإفلاس العام، وانهيار الدول القديمة وحكمتها السياسية الروتينية، إلى حد أن التيجان تتدحرج بالعشرات فوق التراب ولا تجد من يلمها، استحالة القول سلفاً استحالة مطلقة كيف ينتهي كل ذلك ولمن تكون الغلبة في هذا الصراع، بيد أن ثمة نتيجة واحدة أكيدة إطلاقاً: استنزاف القوى عند الجميع وتوافر الظروف الضرورية لانتصار الطبقة العاملة النهائي.
ذلك هو الأفق إذا ما أتى أخيراً أُكله نظام المزاحمة في ميدان التسلح، حين يبلغ حدوده القصوى. انظروا، أيها السادة الملوك ورجال الدولة، إلى أين قادت حكمتكم أوروبا القديمة. وإذا لم يبق لديكم ما تفعلونه غير البدء بالرقصة الحربية الكبيرة الأخيرة، فإننا لن نتكدر. قد تقذفنا الحرب مؤقتاً إلى المؤخرة، وقد تنتزع منا عدة مواقع استولينا عليها. ولكن، إذا أطلقتم قوى لا يبقى بوسعكم بعد ذلك أن تلجموها، فإنكم لن تكونوا، عند نهاية المأساة، وأياً كان مجرى الأمور، سوى ركام من الدمار، ويكون انتصار البروليتاريا أمراً واقعاً أو على الأقل أمراً محتوماً)
كتب لينين في العام 29 حزيران 1918 حول ما كتبه أنجلس: (يا لها من نبوءة عبقرية وأي غنى طائل من التفكير في كل جملة من جمل هذا التحليل الطبقي العلمي الموجز الواضح الدقيق.
إن الكثير من الأمور التي تنبأ بها أنجلس تتم كما لو أنها رتبت سلفاً، وذلك لأن أنجلس أعطى تحليلاً طبقياً صحيحاً لا يمكن الطعن به أبداً.
فتاج رومانوف الذي يساوي عشرة تيجان تدحرج، وانتصرت البروليتاريا في روسيا.)