الحركة الشعبية والأكثرية «الصامتة»

الحركة الشعبية والأكثرية «الصامتة»

يجري الخلط في الكثير من المفاهيم المتعلقة بالحركة الشعبية في سورية، بدءاً من مفهوم الحركة نفسه مروراً بمكوناتها والأطراف المشاركة فيها، بما وصل إلى حدود اتهام شرائح واسعة من المجتمع بالخيانة والجبن، ومحاولة إلباسها لباساً واحداً وتجاهل التمايز بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، بينما يكمن الخلط الأهم في طبيعة الإصلاح والتغيير المنشود الذي لا شك أنه يختلف باختلاف مصالح تلك الطبقات والشرائح. ولم يكن من شأن هذا الخلط إلا أن أصبح معيقاً للحركة ومغيّباً لأهم عناصر التغيير الحقيقي، وممهداً للاستعصاءات المدمّرة من كل شاكلةٍ ولون...

ما هي الحركة الشعبية؟ وما هي أشكالها؟؟

إذا كانت الحركة في سورية تعني الحركة المتصاعدة للنشاط السياسي للجماهير الشعبية الواسعة، فما مدى الاتساع الذي شغلته في المجتمع حتى الآن؟ وهل يكون الشارع هو المعيار الوحيد في اتساع أو انحسار نشاط الجماهير السياسي؟ وهل من الممكن أن ينحسر النشاط السياسي للجماهير إلى حدوده الضيقة السابقة؟؟

الحركة الشعبية التي بدأت كاحتجاج على مظالم محددة ما كانت لتستمر وتتسع تظاهراً إلا لأنها أصبحت تعبيراً عن حاجات ملحّة وضرورية ومتراكمة للتغيير والإصلاح الجذري، فاكتسبت صفة موضوعية وعامة، ووضعت البلاد جدياً على مفترق طرق، بما يمنع العودة إلى الوراء كما يتمنى البعض، وبما يدفع بالضرورة المزيد من الشرائح الاجتماعية للنشاط السياسي بأشكالٍ مختلفة، أقصاها كان التظاهر..

شغل موضوع الحراك الجميع في سورية، ولعبت الأحداث على الأرض دوراً في صياغة مواقف مختلفة منها، وربما دفعت السوريين إلى نقاشات جديدة لم يعتادوا عليها، تتمحور حول مطالب الإصلاح والتغيير، هذا بدوره دفع النخب التقليدية ونخباً جديدة ناشئة في خضم هذا الحراك إلى أشكالٍ من التنسيق والتنظيم فيما بينها، وإلى اتخاذ مواقف مختلفة حوله..

وعلى الرغم من كل هذا لم ينزل الجميع إلى الشارع، لا بل الأكثرية المسماة بالـ«الصامتة» لم تنزل إلى الشارع، وهذا لم يعنٍ إطلاقا أنها بذلك أصبحت في موقع التأييد للوضع السابق، فإلام يعود صمتها «تظاهراً»؟ وهل هي تعد بذلك خارج الحراك أو النشاط السياسي؟؟

النشاط السياسي للأكثرية «الصامتة»..

تمارس تلك الأكثرية نشاطاً وتواصلاً سياسياً تزداد حمأته يوماً بعد يوم، إلا أنها لمّا تنزل إلى الشارع بعد، ويعزو الكثيرون ذلك إلى خوف الناس من البطش الأمني، وهنا يظهر التساؤل الذي قد يبدو فجاً على الرغم من أهميته وهو: هل الجماهير التي نزلت إلى الشارع في المناطق الأكثر سخونة في البلاد أشجع منها في المناطق التي لم تشهد نزولاً شعبياً واسعاً؟؟ بالتأكيد السوريون على درجة واحدة ومرتفعة من الشجاعة، وهم موحدون اليوم أكثر من أي وقت آخر على الرغم من اختلاف مجريات الأحداث من محافظة إلى أخرى، والخوف إن وجد، ليس بعامل أساسي، ويزول عند اتضاح الرؤية للإصلاح والتغيير.   

 لذا فالأكثرية الصامتة صامتة تظاهراً فقط وليست، ولن تبقى، صامتة بأشكال التواصل السياسي والتنظيمي والتنسيقي، وما صمتها تظاهراً إلا لأنها لم تصادف ذاتها في ما يرفع من شعارات، وبالأخص في المسألة الاقتصادية – الاجتماعية والمغيّبة عمداً، فبالتأكيد لن نجد أنفسنا أحراراً عندما يقال: الشعب السوري ليس بجائع.. بل يريد الحرية؟؟

سنختلف كثيراً عندما نشعر أننا نستجير من الرمضاء بالنار، وسنختلف كثيراً عندما يلُف الضباب حراكنا، فاختلاف المواقف من الحركة، بمعناها الواسع العام، يشكل معياراً إضافيا للفرز بين الشرائح الاجتماعية المختلفة عن بعضها طبقياً بالدرجة الأولى وما يستتبع الطبقي من السياسي والثقافي..

واختلاف المواقف لا يعني الموقفين البسيطين من الحراك «مع» أو «ضد»، واللذين قد يلعبان في غير وقتيهما دوراً تسطيحياً بما يجعل الحراك لعبة كرٍ وفرٍ جوفاء، بل يعني بالدرجة الأولى تحديد الشعار الأساسي للتحركات الجماهيرية بجميع أشكالها، وبالتالي حزمة المطالب التي تخص الأكثرية في البلاد أو قواها المنتجة. ومن الطبيعي أن الشعار الأساسي لن يكون وحيداً في نهاية المطاف، بل يوجد الكثير من المطالب المحددة والملموسة الضرورية لإزالة آثار السياسات الليبرالية الاقتصادية المدمّرة للاقتصاد الوطني وللقوى المنتجة.  

عند فرز الأصوات في صناديق الاقتراع، التي هي الأساس في أكثر الديمقراطيات البرجوازية تقدماً ورقياً، لا تدخل آراء الممتنعين عن التصويت في النتائج الانتخابية، والذين قد يشكلون أكثر من نصف قوى المجتمع، ومع ذلك تشق تلك النتائج طريقها في تحديد الممثلين عن قوى المجتمع كافة..

شكليّاً، يبدو هذا الامتناع عن التصويت كشيء من العدمية أو السلبية السياسية، ولكن حقيقة ما يختفي وراءه هو المعارضة الشاملة لجميع الأطراف الداخلة في اللعبة الديمقراطية، وربما لشكل ومضمون تلك اللعبة، والتي لا يرى الممتنعون في أيٍ منها التمثيل الحقيقي لهم، اللهم إلا في بعض الجوانب الثانوية، بما يجعل المستنكفين عن التصويت الشريحة الأهم نوعياً من حيث المزاج والرأي السياسي.. وبالمقابل فعندما تخطئ، نادراً، الديمقراطيات البرجوازية وتزداد نسبة الاقتراع إلى درجات عالية جداً، غالباً ما يكون قد انتصر الموقف الاقتصادي - الاجتماعي المنحاز للأكثرية في المجتمعات الرأسمالية..

وفي سورية التي غاب فيها صندوق الاقتراع أمداً طويلاً، أصبح شارعها صندوقاً للاقتراع وأصواتها أناساً حقيقيين ليسوا بالأكثرية، بينما الأكثرية الواسعة المتململة والخارجة عن صمتها شيئاً فشيئاً وضعت نصب عينيها أن تصنع الخطأ، خطأ الديمقراطية البرجوازية، بأن تملأ الشارع أصواتاً تصنع كرامتها الوطنية والسياسية والاقتصادية -الاجتماعية..

والشعب حسبما يرى أنجلز هو الكتلة الرئيسية من الناس المنتجين للخيرات المادية بسواعدهم وأدمغتهم، أما كتلته الطفيلية الناهبة للخيرات المنتجة فليست من الشعب أياً كانت مواقعها من التصنيفات الوهمية التي يجري إقحامها قسراً في رؤوس السوريين.

لذا فإن الشعب، أي المنتجين، يريد الإطاحة بالسياسات الليبرالية الاقتصادية أياً كان مروجوها.. 

إن تصاعد حركة النشاط السياسي للجماهير يفرض عليها أن تنظم صفوفها أولاً، وتحافظ على حراكها نظيفاً من جميع الشوائب الدخيلة بجميع أشكالها التي من شأنها حرف الحركة بعيداً عن أهدافها نحو مستنقع الليبرالية الاقتصادية من جديد تحت غطاءٍ من التدخلات الخارجية والاقتتالات المذهبية..