الحوار الوطني.. ضرورته، اتجاهه، وشكله..
كان الحوار الوطني وما يزال ضرورة تاريخية تفرض نفسها، وخصوصاً منذ أن أعلن عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهذا ما دعانا في اللجنة الوطنية إلى إطلاق مبادرة الحوار الوطني منذ عدة سنوات، وعقد الندوات المتتالية منطلقين من فهم عميق لاحتمالات التطور في الوضع العالمي وانعكاساته على الوضع الإقليمي والداخلي، ولكن المنطق السائد في الحركة السياسية والفهم القاصر من هنا وهناك في قراءة الموقف، حال دون الوصول إلى الجانب الإجرائي وفق صيغة متكاملة تقوم على أساس ترابط المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، تجنّب البلاد ما يمكن أن يحدث اليوم.
الحقيقة التي لم تعد قابلة للنقاش الآن هي أن البلاد أمام منعطف تاريخي يحدد المصير اللاحق لكل عناصر البنية الوطنية السورية/ الجغرافيا، البشر، والثروات، والثقافة، والقيم، وبنية الدولة، والدور السوري في شبكة العلاقات الإقليمية والدولية.. ولأن الوضع على هذه الصورة، فإن المهمة الأولى هي ابتداع الحلول الواقعية لمعالجة الوضع الراهن، وفتح الطريق مباشرة أمام عملية إصلاح شامل وجذري، وكل ماعدا ذلك سواء كان استقواءً على الشعب بالحديد والنار أو إجراءات ترقيعية، أو زعم واهم بتخطي الأزمة من جهة، أو استقواءً بالخارج والاستمرار في رفع الشعارات الاستفزازية من جهة أخرى، هو نفخ في الجمر، وسيأخذ البلاد حتماً إلى أوضاع أكثر مأساوية ودموية لاحقاً.
لا يستطيع أحد اليوم بمفرده أن يتصدى لاستحقاقات الوضع الراهن، سواء كان النظام بكل ما يمتلك من أدوات، أو أية قوة أخرى، لذا فإن الدعوة إلى حوار وطني شامل هي خطوة لابد منها لوضع الجميع أمام مسؤولياته، وحتى يكون هذا الحوار فاعلاً ومنتجاً ومعبراً عن المصالح العميقة والحقيقية للشعب، يجب أن يكون واضح الاتجاه وعلنياً، ووفق آليات متطورة، وتساهم فيه مختلف الفعاليات الوطنية بتغطية مسؤولة من وسائل الإعلام الوطنية، لكي يحدث ذلك الفرز الحقيقي على أساس البرامج السياسية، وذلك تحت العناوين الرئيسية التالية:
- الحركة الشعبية المطالبة بالإصلاح حق مشروع للشعب السوري، وعلى جهاز الدولة حمايتها وفق قوانين عصرية ديمقراطية، ونبذ كل أشكال الإساءة إلى المواطن السوري، أو الانتقاص من حقوقه، وهدر دمه وكرامته.
- السيادة الوطنية ووحدة التراب الوطني خطان أحمران، لا يحق لأحد تجاوزهما لأي سبب كان، ورفض كل أشكال التدخل الخارجي في الشأن الداخلي.
- صياغة نموذج اقتصادي بديل بعد أن ثبت بالتجربة أن النموذج الليبرالي المتبع فاشل، وعلى نقيض من مصلحة الوطن والشعب.
- الفساد، وبالأخص الكبير منه، مشكلة وطنية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وأخلاقية، واستئصاله مهمة وطنية من الدرجة الأولى.
- الدور الوطني لسورية الذي تكوّن بالتراكم التاريخي وأصبح ثقافة شعبية، هو إنجاز وطني ينبغي تعميقه بالانتقال إلى خيار المقاومة، الأمر الذي يتطلب تأمين البنية التحتية لها.
- فسح المجال لمناقشة كل القضايا الأخرى التي تهم الشعب السوري.
إننا نعتقد أن هذه البنود من الممكن أن تكون نقاط الاستناد الأساسية في أي حوار وطني حقيقي، بعيداً عن حوارات الغرف المغلقة والحوارات الفئوية التي يقوم بها البعض، أو حوارات تقاسم الكعكة التي سعى ويسعى إليها البعض الآخر، حوار تتمثل فيه القوى والنخب التي تقر بالثوابت الوطنية السورية قولاً وفعلاً دون استثناء، للوصول في النهاية إلى صيغة تفصيلية لمعالجة الوضع بأبعاده المختلفة.
هكذا، وهكذا فقط، يمكن أن نرد «المؤامرة» على أعقابها بالنسبة لمن يحاول أن يقزم الحركة الشعبية إلى مجرد مؤامرة خارجية، وهكذا فقط يمكن أن نطهر هذه الحركة من النجاسة التي حاولت تلويثها بعد أن تسابق فرسان الطائفية من هنا وهناك في ملعبها، وهكذا لن تذهب دماء شهداء هذه الحركة هدراً لمن يبكي عليها. وعبر حوار كهذا يمكن أن نحدد خط الفصل بين المؤامرة بأبعادها المختلفة، وبين الحركة الشعبية المشروعة، لا بمحاولة القفز من فوق هذه الحقيقة أو تلك، وتغطية السموات بالقبوات كما يقول المثل الشعبي، وهكذا فقط ننتصر للوطن ضد أعدائه في الداخل والخارج ونصون كرامة أبنائه ونحترم دماء شهدائه، ونفتح الآفاق أمام أبناء الشعب السوري إلى رحاب العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية، وبذلك نكتسب ليس احترام القوى الغيورة على سورية فقط، بل يمكن أن تصبح القوى الوطنية داخل النظام وخارجه بعد هكذا إنجاز مثالاً تحتذي به جميع شعوب المنطقة في حل الاستعصاءات التي تمر بها العديد من بلدان وشعوب المنطقة، بعد أن حاولت قوى دولية وإقليمية وداخلية حرف مسار انتفاضات الشعوب عن خطها الصحيح. وإذا توفرت الإرادة السياسية لمبادرة كهذه فإن الشعب السوري ذا التقاليد الوطنية العريقة منذ ميسلون إلى طرد الاحتلال الفرنسي ودفن مشاريعه التقسيمية، مروراً بكنس الديكتاتوريات المتعاقبة، وإحباط الأحلاف الاستعمارية، والذي كان دائماً سباقاً إلى محاكاة أفضل ما أبدعه العقل البشري في ميادين الفكر والسياسة والأدب... إن مثل هذا الشعب قادر على تجاوز الأزمة الراهنة بتضافر جهود كل أبنائه المخلصين وما أكثرهم.
إننا نؤكد مرة أخرى أن التجاوب مع المطالب المحقة للحركة الجماهيرية ليس دليل ضعف كما يظن البعض من أصحاب الرؤوس الحامية، بل على العكس من ذلك تماماً، فملاقاة مطالب الحركة الشعبية اليوم هي دليل على الثقة بالنفس ورباطة الجأش. ونؤكد لمن يستنجد بالخارج بأن الخارج لن يجلب الديمقراطية لأحد، ولن يوقف نزيف الدم، بل سيزيد من تدفقه ، وإذا كان الجميع مدعواً إلى التجاوب مع الحوار الوطني العام، فإن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق النظام قبل الجميع، على الأقل بسبب موقعه في المعادلة.
لن ينفع أحد في اللحظة التاريخية الراهنة المكابرة الجوفاء، ولا العقلية الكيدية الانتقامية، أو الخطاب الثأري