الضرورات تعني تطوير القطاعات الإنتاجية..

الضرورات تعني تطوير القطاعات الإنتاجية..

وجهت الحكومة السابقة عبر فريقها الاقتصادي بسياساته الليبرالية المنفلتة من عقالها، ضربات موجعة للقطاعات الإنتاجية «صناعة وزراعة» لحساب القطاع  الريعي، وبالتالي سرعان ما تحول الاقتصاد السوري من اقتصاد إنتاجي، إلى اقتصاد ريعي، مما أدى إلى أضرار لا حصر لها بالقطاعات الإنتاجية دون أي شعور بالمسؤولية تجاه الوطن والمخاطر التي ستواجهه نتيجة هذه السياسات المدمرة، ورغم التحذيرات الكثيرة، لم تجرِ أية محاسبة جدية للحكومة على ما قامت به والمخاطر الهائلة التي شكلتها سياساتها.

ويبدو أن أزمة جديدة تدور رحاها الآن، عنوانها من أين ستبدأ الحكومة الحالية عهدها؟ هل من الصناعة، أم من الزراعة، أم من المشروعات الصغيرة، أم من قطاع التصدير الذي أوقفته شركات اقتصادية كبرى، وذلك بعد اهتزاز قيمة الليرة السورية أمام الدولار مؤخراً ومحاولة البنك المركزي الحفاظ على قيمتها ووقف تدهورها؟ الحقيقة أن الحكومة الجديدة هي ضمن حقل ألغام، وكل خطوة غير مدروسة فيه ستؤدي إلى انفجار لغم في وجهها وسط الحراك الشعبي المتزايد، الذي حرّكته وأزّمته السياسات الليبرالية الخاطئة للحكومة السابقة وفريقها الاقتصادي، فتحولت مشاكل الناس إلى أزمات مستفحلة لم تكن نتائجها مقتصرة على الأمور الاقتصادية، بل تعدتها إلى السياسية والاجتماعية والوطنية .

وقبل أن نخوض في هذا الموضوع نعود لنذكر مرة أخرى ثالثة ورابعة وخامسة ونرجو أن تكون الأخيرة، أنه يجب الانطلاق في وضع السياسات والخطط الاقتصادية من الضرورات وليس من الإمكانيات، إذ يجب إعداد الخطة على أساس احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع السوري وفقا لأجال زمنية محددة وليس على أساس الإيرادات المقدرة، وذلك من مدخل احتياجات الاقتصاد والمجتمع السوريين وليس من مدخل حجم الإيرادات المقدرة وبما ينعكس إيجابياً على اقتصادنا الوطني وحياة أبناء شعبنا. 

فالانطلاق من الضرورات يجب أن  يعني محاربة الفقر والبطالة ووضعهما كهدف للخطة القادمة، والتي يجب أن تؤدي إلى ارتفاع أرقام النمو الحقيقية في اقتصادنا وحل الخلل بين الأجور والإرباح، ورفع القدرة التنافسية للاقتصاد السوري بقطاعاته الإنتاجية المعروفة تاريخياً، والضرورة تعني أيضاً ازدياد دور الدولة في إدارة الاقتصاد الوطني، و تقتضي ازدياد الثروة الوطنية المتراكمة من الناحيتين العينية والنقدية، والضرورة تعني أخيرا العودة لكي تقوم الدولة بتأدية دورها الاجتماعي في دعم المواد الأساسية لحياة الشعب السوري.

وللإجابة على السؤال المطروح من أين ستبدأ الحكومة الحالية نقول: إن الإجابة على هذا السؤال يتضمن كلمتين فقط وهي من «القطاعات الإنتاجية » حصرا وهي «الصناعة والزراعة»، والابتعاد ما أمكن عن القطاعات الريعية، ذلك أن الريع كسب للأرباح بطرق  ملتوية غير منتجة وغير مشروعة، اعتمادا على  أداة من أدوات الفساد، «فالتجارة شطارة» كما يقولون، وهو في آخر الأمر انتقاص من الرأسمال الوطني وليس زيادة فيه، وهو بذلك أيضا يخلق خللا في آليات التنافس وتطوير الثروة الوطنية، من ذلك مثلا، عائدات النفط، التي، إذا استهلكت مباشرة، تعد ريعا، لأن من المفروض أن تمر عبر قنوات سليمة لتتحول إلى رأسمال حقيقي ملموس وبرميل النفط الخام يبلغ سعره حاليا حوالي 110 دولار، في حين لو كرر وصدر كمشتق « بنزين » مثلا سيرتفع سعره إلى 375 دولار تقريبا مما يشكل قيمة مضافة تبلغ 3 أضعاف لو صدر خاماً.

والاقتصاد الريعي يعني عمليا تبادلا للقيم المنتجة من القطاعات الإنتاجية أصلا، وهو ما ينسجم مع مقومات الدولة الضعيفة أو الدولة الرخوة «وبالتالي يشوه المؤشرات الاقتصادية من خلال تحويل أغلب الاستثمارات إلى قطاع الخدمات والعقارات وتحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي وإشاعة نمط الاستهلاك الترفي والتفاخري واستغلال الفرص عن طريق المضاربات، وبالتالي يوجد فصل وانفصال بين العمل ومردوده». وإن من أهم خصائصه أن آفاق تطوره محدودة بسبب ضعف التراكم الرأسمالي، الذي يؤدي إلى تبادل قيم منتجة سابقا، في حين أن الاستثمار في قطاعات إنتاجية «زراعة وصناعة» يعني إضافة طاقات إنتاجية جديدة إلى الطاقات القديمة وإنتاج قيم جديدة تُفعِّل دور القطاعات الأخرى، ويؤدي إلى زيادة حقيقية في الناتج الوطني  الإجمالي،  وإن الاعتماد على استيراد السلع والتكنولوجيا بدلا من التوجه نحو تصنيعها أو توظيفها أو على الأقل البدء بذلك، سيترافق مع سوء توزيع للناتج الإجمالي، وفي أغلب الأحيان يترافق مع امتلاك أموال كثيرة من قبل الدولة، لكن رغم ذلك تشتد حدة الفقر بين المواطنين وتزداد معدلات البطالة لأن هذا الاقتصاد بطبيعته غير مولد لفرص العمل.‏

ولذلك لابد من إعادة النظر بالخطة الخمسية الحادية عشرة من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد السوري للخروج من الطابع الريعي الذي يتسم به حاليا، وذلك عن طريق تحفيز الاستثمارات وضخها في قطاعات إنتاجية وتنويعها واستغلال كل الإمكانيات المتوفرة وتصنيع المواد الأولية وعدم تصديرها على شكل مواد خام، مع ضرورة التوقف عن انتظار الاستثمارات الأجنبية التي لن تأتي، فإذا علمنا أن الاستثمارات الأجنبية في العالم العربي لم تتجاوز لعام 2006 نسبة 4.8% من إجمالي الاستثمارات العالمية، وهي تزيد قليلا عما حصلت عليه «هونغ كونغ » وحدها 3.3%، وهي أقل مساحة من« البحرين»، فيجب ألا ننسى أن الإمكانيات المتاحة لتنفيذ هذه البرامج متوفرة لوضع الاقتصاد السوري على سكة التطوير وزيادة القدرة التنافسية  له، من خلال الاستغلال الأمثل لعناصر الإنتاج والانتقال تدريجيا نحو الاقتصاد الصناعي ومن ثم اقتصاد المعرفة القائم على زيادة المحتوى التكنولوجي والمعرفي في السلع والخدمات المنتجة.

قد يتساءل البعض عن هذه الإمكانيات وأين توجد، نجيب فورا أن هناك ينابيع ضخمة ستدر الأموال اللازمة لتحقيق المطلوب يتجسد من خلال ضرب دابر الفساد المستشري والذي ينهب وبشكل منتظم الموازنة العامة للدولة، ولا تقل حجم المبالغ المنهوبة عن 20- 40% من الدخل الوطني وتبلغ بين 750 - 800 مليار ليرة تقريباً. من خلال قطع دابر الفساد المستشري في جهاز الجمارك العامة،  فمن غير المعقول أن تبلغ واردات دولة مثل لبنان (لا تزيد مساحتها عن 10252 كلم  مربعا، وعدد سكانها 3.5 مليون نسمة) حوالي 3.5 مليار دولار، في حين أن واردات سورية من الضرائب الجمركية تبلغ أقل من ملياري دولار تقريبا. وكذلك قطع دابر الفساد المستشري في القطاع الخاص الذي يتجسد بالتهرب الضريبي الهائل الذي يقوم به، فلا يدفع إلا حدودا دنيا من الضرائب المفروض أن يدفعها لخزينة الدولة، والتي تبلغ أيضاً مئات المليارات. وأخيراً إعادة المبالغ المنهوبة من الينابيع الثلاثة المذكورة بطرق عديدة يمكن أن تكون إحداها فرض ضريبة دخل غير مشروع لا يقل عن 50% من قيمة الثروة المقدرة لمصلحة خزينة الدولة.

إن ارتقاء الإجراءات الحكومية، وخاصة المالية منها، إلى مستوى الضرورات التي يفرضها منطق الدفاع عن الاقتصاد الوطني أمر مطلوب وهام، وإن دورا جديدا للدولة تنمويا عقلانيا منفتحا على المجتمع هو الضمانة الوحيدة لكسر حلقة المشاكل الكبيرة التي نواجهها من نهب وبطالة وتدهور لمستوى معيشة الشعب، ونمو منخفض يكاد يتحول إلى اللا نمو.. إن الارتقاء للضرورات المفروضة على اقتصادنا لمواجهتها وحلها أساس هام ومتين لأية خطة نسعى لنجاح تنفيذها.