ذكرى النكبة 2011 كما عاشها أبطالها.. يوم ليس كباقي الأيام!!

ذكرى النكبة 2011 كما عاشها أبطالها.. يوم ليس كباقي الأيام!!

هو مجرد صباح من صباحات أيار الربيعية، لكن ما ميزه عن غيره حقاً وجوهراً أنه كان صباح الخامس عشر من أيار بعد ثلاثة وستين عاماً عن مطلع اليوم نفسه والشهر نفسه من العقد الماضي، حيث  أطلق عليه يومها اسم «نكبة فلسطين».. ليكون بعد ستة عقود ونيف يوماً لبدء زوال أثر النكبة من النفوس والعقول والعزائم..

تكثف كلمة نكبة كثيراً من التفاصيل السوداء، فهي تهجير واحتلال وشهداء وجرحى ولجوء وشتات ومخيم وعودة و«أنوروا»... وكل تلك المفردات المخزنة بشكل قسري في ذاكرة كل أبناء النكبة.. وسيكثف يوم 15 أيار 2011 قدرة الشباب الفلسطيني الثائر، المدعوم بأشقائه العرب عموماً والسوريين خصوصاً، على تجاوز آلام وخيبات النكبة إلى عصر جديد.. سمته الرغبة الكبيرة والإرادة القوية الحاضرة للتحرير واستعادة الحقوق..

من المخيم إلى الديار

صباح ربيعي اجتمعت فيه جموع غفيرة من أبناء النكبة في أحد أكبر مخيماتهم «مخيم اليرموك»، ليركبوا الحافلات التي ستقلهم إلى آخر نقطة سمح لهم بها..

أخيراً جاءت الموافقة على يوم الزحف، فاضت الدعوات على الفضاء الإلكتروني منه لتصير جموعاً من أبناء الشتات لم ترض أن تقف ولو لثوان على منصة عين التينة قبالة مجدل شمس رمز الصمود الجولاني السوري، وأصرت على الزحف بعيداً. ربما استنشق أولهم نفساً عميقاً، ولكنه لم يطل الحسم.. اندفع.. وتبعه البقية.. وطئوا أرض الجولان تباعاً، واستمروا واقتحموا وواجهوا وقبلوا الأرض.. صلّوا بها وعانقوها، شربوا ماءها وأكلو طعاماً منها.. كانت أفعالهم انعكاسا حقيقياً لوجودهم، انعكاساً صرفاً لثقافتهم وتكوينهم ومشاعرهم كلهم دون استثناء، فـ«بشار الشهابي» أول الشهداء لم يكن سوى شاب في مقتبل العمر، أراد أن يزرع وجوده قسرا عن رغبة جنود الاحتلال، فهاجم سيارتهم العسكرية وزرع علمه، علم فلسطين، كل فلسطين على ظهرها، متحدياً بذراعيه جنود الاحتلال وآلته الحربية. كان علم الوطن علمه الذي جعله أحد أدوات المواجهة.. كيف لا؟ وهو علم كل الوطن وإن كثرت خلافاته الداخلية فـ«بشار» أصر على إشهاره كسلاح جامع.

يقول عمر شهابي عم الشهيد بشار لجريدة قاسيون في ذلك:

«إن الشهيد بشار أراد أن يوصل رسالة للعدو الصهيوني مفادها أننا – نحن الفلسطينيين- لن ننسى فلسطين أبدا، وأن حق العودة هو حق مقدس للشعب الفلسطيني ولن نتخلى عنه مطلقاً.. وأن الوحدة الوطنية هي إحدى ضرورات الاستمرار على خطى الشباب الذين اقتحموا الحواجز باتجاه مجدل شمس وكسروا الحصار». ويروي عم الشهيد عن أحد الشباب الذين كانوا مع بشار عن لحظة استشهاد البطل بشار، فيقول نقلاً عن محدثه الميداني بأن الشهيد كان قد قام بوضع العلم الفلسطيني على السيارة الإسرائيلية، وعندها أطلق عليه أحد الجنود الصهاينة الرصاص فأصابته رصاصة في رأسه، وتم إسعافه سريعاً ولكنه فارق الحياة شهيداً.

بعض الجراح النازفة

لم يكن بشار إلا أول رمز من رموز ذلك اليوم الأغر، ومن ثم التحق به «قيس أبو الهيجا» و«عبيدة زغموت». اشتبكوا كلهم وجها لوجه مع قوات الاحتلال مصرين على وجودهم الواحد ورسالتهم الواحدة، وانتموا جميعا إلى إرادتهم الحرة. حيث  يرى البطل الجريح «عبد الهادي حسين» الذي شارك رفاقه نزف الدماء على أرض الجولان أن ما فعلوه كان بعيدا كل البعد عن شذرات سيئة الصيت أصابت العمل النضالي الفلسطيني، فالعمل كان أبعد ما يكون عن الحالة الفئوية والفصائلية الضيقة. يقول عبد الهادي من فراشه في أحد مشافي سورية لقاسيون:

«أولاً أريد توجيه رسالة إلى كل الشباب الذين كانوا معي في مواجهة جنود الاحتلال داخل الأرض المحتلة، وأقول لهم: إنهم قاموا بعمل رائع، فبعد 63 سنة من الابتعاد عن هذه الأرض كنا نحن أول من داسها، وحطمنا ذلك الجدار الفاصل بيننا وبين الأراضي المحتلة، وهذا بحد ذاته عمل بطولي.. ونحن الشباب الذين كنا هناك، كنا أبعد ما نكون عن الحالة الفصائلية، فحاربنا جميعا كفلسطينيين أحرار».

توسم زيارتنا لجرحى المواجهات بشعور الغبطة لما فعله هؤلاء الإبطال، وشعور الغليان عند مشاهدة جراحهم النازفة، خاصة عندما شاهدنا أصغر شباب الاقتحام وهو الشاب «أنس موعد» البالغ من العمر اثني عشر ربيعاً. نراه وقد أصر الكيان الصهيوني أن يقضي عليه بغازاته القذرة، فألقى على الشباب غازات مسيلة للدموع ولكن حالة الشاب أنس موعد توحي بأن هذه الغازات تؤثر بشكل خطير على الجهاز العصبي فـ «أنس» يرقد الآن في غرفة العناية المشددة في قسم العصبية، وهو يتعرض لاختلاجات موجعة ناتجة عن ذلك الغاز القذر...

تغادر عيوننا المشفى وندخل إلى المخيم، إلى حاراته الرطبة والمكتظة بالأحزان والجراح وصور الشهداء والقادة الوطنيين، المخيم الذي خزن في معناه ذلك الشيء الدفين في قلوب وعيون أولئك الشباب.. صرخوا بمكنونهم عاليا في وجه عتاة الأرض، صرخوا ونطقوا بسرهم الدفين.. سر العودة.. سر وجودهم ومعناه، ربما جاء بهم آباؤهم لشيء واحد هو العودة، والتي حققوها للحظات بل ولساعات. ولكنها كانت كلمة أولى في كتاب وجودهم التاريخي.

أحلام وصلت

تعبر لميس الخطيب، إحدى البطلات اللاتي تواجدن على خط المواجهة، عن رؤاها التي جالت طويلا في السياسة والأفكار، ولكنها رست الآن عند لحظة العودة، والتي تراها أنها تحققت ولو للحظات قصيرة وحسب.. تقول لميس:

«كانت رسالة تحد، فمجرد دخولنا إلى الأرض المحتلة يعتبر انتصاراً، وحتى لو كان انتصارا رمزيا، فنحن لم نبق طويلا، ولكننا خرقنا ذلك الحاجز والمتمثل بأنه لا يمكن لأحد الدخول.. إن فكرة العودة تحققت ولو لثوان أو لساعات».

وعن سؤالها عن أفضل الطرق لاستمرار هذا العمل قالت:

«من المفروض أن يستمر هذا العمل، فنحن الآن بحالة عاطفية وحالة ثورية، ويجب أن يستفاد من هذه الحالة قدر المستطاع، بالإضافة إلى ضرورة تنظيم هكذا عمل من خلال إيجاد لجان أو هيئات تتولى تنظيم نظيره المقبل وتتبناه».

يظل الفعل الفدائي عصيا عن الكلمات، فهو تكثيف لكل المشاعر .. الوطن يصبح معشوقة تنتظرك 63 عاما، واتصالك المادي المباشر يبث في أطرافك نشوة هائلة.. إنها نشوة الخلق، نشوة الوجود، فأنت الآن خالق لحظة تاريخية، وأنت الآن موجد نفسك، وهنا تصطدم الكلمات بحنجرة ناطقها. فـ«محمد درويش» الذي استطاع أن يصل إلى قلب مجدل شمس إلى ساحة سلطان باشا الأطرش، يرى أن خوفه ناتج عن وجوده مبعدا عن خط النار، فما إن يقترب أكثر حتى يتناثر الخوف مبتعدا عنه الى عيون جنود الاحتلال، ملقيا في نفسه مزيجا من المشاعر عبر عنها بقوله:

«عندما وصلنا إلى (عين التينة) لم نكن بعد قد سمعنا صوت الرصاص، ولم نكن نعرف ماذا سنفعل بداية، ولكن عندما شاهدت الشباب وهم يقتربون من الحدود ويحاولون اقتحامها لم أستطع الانتظار أكثر من ذلك، فنزلت، وكنت أشعر بالخوف إلى أن وصلت حتى منتصف الطريق، حيث كان الطريق وعرا، ولكن كلما كنت أقترب من العدو أكثر كنت أشعر بتبدد الخوف تدريجياً، ومن ثم تابعت السير حتى وصلت إلى «مجدل شمس»، وعندها أصابتني حالة غير معتادة فيها مزيج من الحزن والفرح معا. لقد كنت سعيدا بوصولي إلى هذا المكان، والذي لم أكن أتخيل يوما أني سأصله، وكنت حزينا بالوقت نفسه لأننا لم نجرب هذا الفعل من قبل، فعمري الآن 26 سنة، وكان يجب أن نقوم بذلك قبل اليوم. نعم، لقد بقينا هناك حوالي 4 ساعات، وكنا موجودين في ساحة سلطان باشا حيث قابلنا أهالي مجدل شمس بالترحاب وساعدونا كثيرا بهذا العمل».

وتابع قائلا:

«انشاء الله سنستمر بهذه الحالة، وأتمنى على شبابنا أن يسعوا لتنظيم أنفسهم في الشتات، فبالإمكان إقامة مجلس وطني لشباب الشتات نحاول من خلاله أن نكون ممثلين في القرار المتخذ بشأن القضية الفلسطينية».

ل الشعارات وعلى كل الكلمات، ولا يتورع عن إبداء كل الجنون المختزن في داخله ليوصل صوته إلى كل العالم وكل التاريخ صارخا بكلمة «أنا فلسطيني»، وحتى لو اضطر لأن يقتص لذاته من ذاته، فهو ينتقد كل تفصيل بواقعه، ويعود ويلتحم بكل تفاصيل ذلك الواقع اللئيم، فهو يرفض الاحتلال ويرفض الشرعية الدولية ويرفض كل الحرية المكتوبة والمقروء عنها، ويختار حريته على طريقته، طريقته التي تتناغم مع أوجاعه التي لن يحسها غيره. فهو اللاجئ الفلسطيني المشرد المنكوب الفدائي، هو ولا أحد سواه..

تطلعات ثائرة

يعبر الشاب أحمد زيتوني، والذي دخل مع رفاقه تلك الملحمة، عن تلك الحالة بمفرداته قائلا: 

«قبل هذا الحدث بيوم كنت أفكر بموضوعين: الأول عن هويتي كلاجئ في سورية، ففي ظل الأحداث التي أشهدها أنا مطالب كل يوم بتبني موقف معين، لذلك في كل مرة كان ردي بأني إنسان فلسطيني، وبالتالي ماذا يجب أن يكون دوري لأثبت ذلك، فجاء هذا العمل كرسالة ذاتية لأثبت بأنني لا أزال إنساناً فلسطينياً. أما الرسالة الثانية كانت للشعب السوري، وهي أنني كإنسان فلسطيني لدي قضيتي، ولست مطالباً بتبني أكثر من قضيتي الآن. والرسالة الثالثة هي أنه في الفترة الأخيرة من كان هناك تخوف من إعلان دولة من جانب واحد، وبالتالي سيكون حل مشكلة اللاجئين بتوطينهم، ولذلك جاءت رسالة هذا الفعل لتثبت للقيادة الفلسطينية وللعالم بأن اللاجئ لن يرضى بحل التوطين، ولا يزال حلم العودة حاضر فيه، ولا أظن أننا وصلنا رسالة كافية لجيش الاحتلال لأنه لم يكن هناك تغطية إعلامية كافية، وسياسيا لن نرى منعكسات هذه الحركة سريعا باعتبارها خطوة أولى، ولن تستطيع الفصائل أن تضغط على منظمة التحرير للعمل على حل مشكلة اللاجئين، لكن في حال تكرار هذه التجربة فعندها باستطاعتنا الحديث عن مكاسب جدية. ويرى أحمد زيتوني أن هنالك سيناريوهين للوصول بهذا العمل إلى غاياته القصوى. الأول يتجلى فيما لو استمرت الحركة كحركة سلمية فإنها قادرة أن تفرض نفسها على الرأي العام العالمي لتضغط على حكوماتهم. والسيناريو الثاني هو الحراك العسكري فاعتقد أن الثورة الفلسطينية لم ينقصها يوما السلاح وإنما ما كان ينقصها هو قيادات سياسية قادرة على بلورة هذه النضالات بشكلها الحقيقي».

وعن شعوره بعد هذا العمل قال: «لم أصل إلى مجدل شمس، وشعوري كان رائعاً وفخورا بالناس الذين حولي.. لقد حملت أشخاصاً لا أعرفهم. لأول مرة نشعر بأننا حقا فلسطينيين. لطالما حضرنا ندوات ومحاضرات لكنها لم تستطع أن تعطينا شعورا بالهوية الفلسطينية، والنكبة هي التي وحدتنا».

لم ينتظر هذا الجيل الشاب طويلا، فقد شهق معظمه شهيقه الأول مع هبوب رياح الانتفاضة الأولى، وأمضى مراهقته بين شوارع اللجوء والشاشات التي تعرض أحداث الانتفاضة الثانية، وأصر أن يأخذ من صراعه التاريخي معركته المنتظرة.    فدعا أولئك الشباب وتداعوا لانتفاضة ثالثة  لتقطع الطريق على كل وهم الكيان ووهم مطبعيه بأن حقوق الشعب الفلسطيني ستعود بمفاوضات عبثية. قرر الشباب أن يرفض التطبيع والتطييع والمفاوضات والاحتلال، وذهبوا بكل ثقة متمسكين بفكرة «أننا لسنا محكومين بالأمل وحسب، بل إننا اليوم محكومون بالانتصار».

كانت ديمة كتيلة إحدى البطلات اللاتي شاركن في الاقتحام، وزحفت مع إخوتها وأصدقائها وكل رفاقها إلى ان واجهت أسلاكا شائكة تركت على يديها ذكرى سيكون لها طعم الوجود، تستذكر ديما تلك اللحظات وتروي:

«عندما وصلت إلى منصة عين التينة، وجدت أن الشباب الذين سبقوني قد عبروا الطريق باتجاه مجدل شمس، عندها رأيت أمامي طريق واحد وهو طريق التحرير والعودة. لم يمنعني شيء عندها من عبوره باتجاه الحلم الذي طالما حلمت به كأي لاجئ فلسطيني، وجدت نفسي على ارض مجدل شمس وعلى بعد امتار من فلسطين، ووجها لوجه مع جنود الاحتلال. واجهناهم بالحجارة بدون أي خوف مقابل الرصاص والقنابل المسيلة للدموع.. أردنا أن نتحداهم ونؤكد لهم بأن وجودنا في الشتات لن يعني أبدا تخلينا عن حقنا بالعودة.. أردنا أن نكون جزءاً من الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، وأن ندعم أهلنا في الداخل الفلسطيني، ونؤكد لهم بأنه عندما تفتح لنا الجبهات فلن نتخاذل أبداً.. وأريد أن أوجه الشكر لأهالي مجدل شمس على دعمهم المعنوي والمادي لنا، ولن أنسى أبداً دموعهم وفرحتهم عندما شعروا أنهم بين أبناء الوطن بعد غربة طويلة. الآن نشعر كفلسطينيين وكسوريين بأننا جاهزون ومتأهبون وتواقون إلى تحرير أراضينا المحتلة أكثر من أي وقت مضى. وما نريده الآن هو فتح جبهة الجولان مرة أخرى، وهذا ما سيوحدنا جميعا كفلسطينيين وسوريين حول هذه المعركة الوطنية».

تحدي الاستمرار

لا يرث الفلسطيني ذاكرة أجداده وآبائه كغيره بيولوجيا فقط، لكن يومياته تعد رواية معاصرة وتجديدية عن تراث من الذاكرة يتجدد في كل لحظة. فأبوه لاجئ وجده ثائر وعمه شهيد وأخوه أسير، وهو ككل أقربائه شهيد كل لحظة، وأسير كل الذكريات، ولاجئ إلى كل العيون الناظرة إليه بغبطة ليختفي فيها  كرمز دفين للتحدي. هكذا كان الشاب «إيهاب خلف» والذي أراد أن يعلن أن الكفاح المسلح عائد، وهو خيار استراتيجي للقضاء على الاحتلال. وقال إيهاب خلف الشاب العشريني الذي شارك في العمل البطولي:

«إن الوسيلة الأفضل للاستمرار هي عودة الفصائل إلى الكفاح المسلح حتى الوصول إلى التحرير، وأن يصبح مطلب العودة من المطالب الأساسية في كل لحظة». كما قال أنه شعر «أن الموضوع كان حلماً، وأنه أجمل عمل قمنا به وجميع الشباب الذين شاركوا يشعرون الآن بالسعادة الغامرة».

يصر الشباب الفلسطيني على إثبات جدارته في رفع راية النضال خلفا لسلف أنجز ما أنجز وتاه عن عناوينه الكبرى، ربما لم تنجز الفصائل الفلسطينية خلال العقدين الماضيين سوى المزيد من حالة التشرذم والتخبط وحالات من الفعل القاصر عن الوصول إلى منتهى غاياته، لكن يبدو أن الجيل الثائر في 15 ايار 2011 سيكون سمت المعركة، وسيوجهها بعنفوانه وعنفه الثوري. لا بل يصر أن يضع خطوطه الحمراء المحيطة بثوابته، والتي لن يسمح لأي أحد كائنا من كان أن يمس بها فحق العودة مقدس، وتحرير كل فلسطين واجب كل من يتأخر عنه يعتبر خائنا للتاريخ، والقدس «عاصمته الأبدية» والقضاء على الاحتلال «فعله وحده»، وحتى لو اختارت قياداته التفرج فقط، فهو الآن سيد نفسه ومالك لحظته وتاريخه.

يتحدى جهاد كتيلة أحد اللاجئين الأبطال بنظرته كل ما يصفه بترهات السياسة، وينتصر لفكرته الرافضة لأية مساومة تحت أي عنوان، ينتصر لها بدخوله إلى مجدل شمس ساعيا للقيام باعتصام مفتوح داخل الأرض المحتلة، مبتغيا الوصول إلى بحر حيفا.. إلى الطيرة التي اقتربت بفعل إرادته وإرادة أصدقائه مسافة صمود بطولي. يقول جهاد بكل ثقة:

«أردنا أن ندفع الكيان الصهيوني لكي يفهم أننا كلاجئين لدينا القدرة والاستعداد لدخول الأرض ومواجهتهم لاستعادة أرضنا، وأن هذه القضية لم تزل حاضرة، وأردنا أن نسقط مقولة «غولدا مائير» بأن هذا الشعب سينتهي. وبالطبع من حقنا المطالبة دائما بالعودة وهذا ما أردنا أن نقوله ونوصله للحكومات العربية أيضا، بأننا شعب لديه حق وهو قادر على تحصيله، والرسالة الثالثة كانت للفصائل المتخاذلة التي لم تقف إلى جانبنا في أية مرحلة من المراحل. بالنسبة للذن لم يشاركوا في هذه العملية الآن لديهم استعداد كبير للمشاركة في أي فرصة أخرى تتاح لهم والمطلوب من الفصائل إما أن تأخذ موقف جدي لدعم هذه الحراك أو أن تتنحى».

يعي هذا الجيل تماما أن ضرورة التغيير تفرض عليه تكلفة تتناسب مع درجة أهدافه. فهذه كانت بدايته المظفرة في العمل الميداني إلا أنها تستلزم منه وعيا سياسيا وتقدما في كل أدوات الصراع فهو لا يريد إضاعة هذه اللحظة التاريخية لا بل يسعى في كل لحظة لاستكمال كل أدواته لتحقيق تغييره الأقصوي، فلا حياة على الحياد ولا إسقاط لأية أداة من أدوات الصراع وأن ما تم على الأرض سيستمر ويرسخ وينضج سياسيا إلى أن يفرز وعيه التاريخي الذي يفضي إلى بناء فعل واع يقوم على إدراك أن الظرف التاريخي معه اليوم، فإما أن يعاجل عدوه بضربة قاضية، أو أن يبدأ بالترنح أمام ردات عدوه.

 يركز البطل الجريح «إياد خلف» على ضرورة الوعي السياسي لهذه المرحلة  وضرورة استثمار كل طاقاتنا خاصة بعدما ما شاهد بعينه ما فعله شباب قليل الخبرة وقليل التنظيم بجنود الاحتلال. يقول إياد:

أردنا أن نوصل لهم رسالة: أن هذه الأرض هي بالنهاية أرضنا فكانت ارض أجدادنا وستكون أرض أولادنا ولن ننساها أبداً.

وأضاف في تفاصيل الحدث: عندما وصلنا إلى هناك لم نكن نتصور أن ما حدث سيحدث، فعندما كنا في طريقنا إلى المنصة سمعنا صوت إطلاق رصاص لم نكن نعرف ما هو مصدره وعندما وصلنا إلى الشريط وجدنا بأن الشباب قد اشتبكوا مع الجنود الإسرائيليين بعد أن اقتحموا السياج، فبدأ الجميع يهتف واتجهنا إلى مجدل شمس، ووجدنا أن عدد من الشهداء والجرحى قد سقطوا، لكن الجميع أصر على التقدم وعدم التراجع رغم الرصاص والقنابل، وعندما وصلنا اشتبكنا معهم بالحجارة. ولا بد من الوعي السياسي للقضية وإدراك أن هناك ثمن يجب أن ندفعه لاستعادة الأرض حتى تتطور هذه الحالة.

عودة على طريق العودة

عاد الأبطال مع غروب الشمس بعد أن اصطبغوا بأشعتها في صباح المجدل وظهيرته، عادوا بجرحاهم وشهدائهم.. وقد استقبلوا طوال طريق العودة استقبال الأبطال بالزغاريد والورود والأرز والقبلات.. وكل الاندفاعات التعاطفية التي توحي بأنهم قاموا بعمل تاريخي.. هذا العمل الذي التف كل الناس حوله على الطرقات الممتدة من القنيطرة وحتى مخيماتهم، لتعلن عن احتضان شعبي ينتظر موعدا قريبا يكون فيه هؤلاء المستقبلون مع هؤلاء الأبطال ومع أبناء المجدل الذين ساهموا كثيرا بهذا العمل الكبير في ساحات المواجهة التي جرت، ولو بشكلها الذي لم يكتمل بعد.

كل تلك الكلمات التي رويت على صفحات هذه الجريدة عن هذا العمل البطولي، لن تقدر أن تفي ذلك العمل الفدائي حقه، لكن التاريخ وحده سيعلن انتصاره لتلك العيون الناظرة والمتحدية أكثر والمصممة على متابعة المسيرة الجديدة حتى الشهادة أو النصر الأكيد.. ووحدها الأيام المقبلة سترينا أن هذا الفعل سيغير خريطة المنطقة، فهو يسحب الشرعية عن كل كلمات الرسميين المبتذلة عن التحرير والعودة والمقاومة والممانعة، لا بل سيفضي ذلك الفعل لمستوى أن يكون الحد الفاصل بين ما قبله وما بعده.. بين من معه ومن ضده، وبين من يلتف من حوله، ومن يبتعد كثيرا عنه ليسوف أو يساوم أو يرتب أولويات، أو ينتظر موازين القوى لتميل دون عناء ولن تميل.. فاليوم لا صوت يعلو على صوت التحرير.