الليبرالية في خدمة الاحتكار والفوضى.. والمؤامرة!
النظام الرأسمالي العالمي، ومنذ بدايات تبلور الرأسمالية الاحتكارية، أنتج فكرياً مدارس واتجاهات تتباين بشكل واسع من حيث بداية الحلقة المفرغة التي تدور فيها ونهايتها، إلا أنها لا تخرج عن الدائرة نفسها بمسلمات وبديهيات قائمة على هيمنة نمط الإنتاج القائم... فمهما تعارضت الكينزية مع النقدية الفريدمانية إلا أن المدرستين تعبران عن تكتيك تسيير مصالح الرأسمالية الاحتكارية، الأولى في وقت الأزمات، والثانية في فترات الازدهار والرواج.
تعود اليوم الكينزية بأشكال جديدة لتسوق لدور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي، وتحديداً دول المركز، نتيجة اشتداد الأزمة ومضاعفاتها، والحاجة إلى دور الدولة القوي القادر على فرض التمركز ضمن دوائر أضيق وإخراج اللاعبين الصغار من السوق، وتجييش كل الموارد الاجتماعية لخدمة القطاعات الكبرى المتهاوية، ما يشكل خطراً حقيقياً على المنظومة بأكملها.. بالمقابل، وعلى مستوى دول الأطراف بكل مستوياتها، يستكمل تسويق سياسات المدرسة النقدية، أو ما يسمى اقتصاديات العرض القائمة على منهجية أولوية التحفيز والاستثمار كمولد لحركة السوق العفوية المطلقة والقادر على خلق النمو والتشغيل، وربط هذا بريادة القطاع الخاص والانفتاح الواسع، مما يتطلب لجم دور الدولة وحصره بالدور الخدمي الإشرافي بأضيق حدوده، وهو ما يلبي تسريعاً وتعميقاً لعمليات النهب الممنهج والشرعي مساعداً بإعادة تركيز الموارد خدمة للاحتكارات والدول المتهاوية..
الأزمة الرئيسية للنظام الرأسمالي القائمة على التناقض ما بين الاحتكارات الرأسمالية وضرورات الربح الأعلى والأشد تمركزاً، مقابل جيوش من العاطلين والفقراء والمهمشين، تضع البشرية بأكملها أمام تبني المنظومة الحاكمة بكل مدارسها ونخبها ومؤسساتها لخيار الحرب، بأشكالها اللا متعددة، أو ما يمكن تسميته بشكل أدق «خيار الهدم الممنهج»، منظومة متينة يشكّل فيض المهمشين حطبها المتقد، وطفيليو الليبرالية الريعيون مشعلي نارها وحماتها، وصولاً إلى استكمال عوامل البناء الواعي للفوضى والعنف، ما يؤمن قتل احتمالات الاستقلال وخلق النماذج البديلة الخارجة عن المنظومة العالمية، ويؤمن بالضرورة الهيمنة الكاملة، وهو ما تم السير به منذ إعلانهم موت النماذج البديلة فكرياً وعملياً مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وهيمنة الليبرالية الجديدة على الفكر العالمي، وتوسيع دور المؤسسات الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية)، كلاعب أساسي في صياغة نهج العولمة الاقتصادية بأكثر أشكالها توحشاً واتساعاً عن طريق سياسات التثبيت والتكييف الهيكلي الذائعة الصيت. ويكفينا ما آلت إليه الحال في دول مثل مصر وتونس نتيجة الاتباع الممنهج لهذه السياسات، وهو ماسوّق له في المحافل الدولية على أنه خط اقتصادي يمثل معجزات في النمو والتنمية، بينما كان على أرض الواقع يخلق شروط الثورة بتوسيع الفقر والتهميش والفساد الطفيلي والقمع والعنف المرافق.
سياسات التكييف والتثبيت الهيكلي
تبلورت هذه السياسات في اطار أزمة المديونية العالمية، كجملة من السياسات التي تشترطها المؤسسات المالية العالمية لتقديم القروض وجدولة الديون، وسرعان ما أصبحت بنوده وسياساته هي المنهجية المتبعة في كافة برامج الإصلاح الاقتصادي لدول الأطراف، والتي يتلخص أهمها بالتالي:
- تحييد دور الدولة الانتاجي عن طريق بنود تشمل جميع جوانب السياسات الاقتصادية مثل إلغاء مؤسسات القطاع العام الاقتصادية والاتجاه نحو خصخصتها، سياسات التحرير بكل جوانبها حرية التجارة، تحرير الأسعار، وما يتطلبه من إلغاء الدعم الانتاجي والاستهلاكي، تقليص الانفاق الحكومي، تثبيت الأجور، وتقليل التوظيف الحكومي.
- يقابلها توسيع دور القطاع الخاص وعدم تأطيره أو توجيهه، بتحفيز الاستثمار الأجنبي وتقديم المزايا الواسعة، والسماح بحرية خروج الأموال والأرباح، توفير بيئة نقدية ومالية قائمة على إزالة كافة القيود التي تعزل الاقتصاد عن الاقتصاد العالمي، من تحرير حركة النقد الأجنبي، إلى إقامة سوق للأوراق المالية المحلية، وتعويم للعملة الوطنية، وخصخصة القطاع المصرفي، وإزالة القيود على الاستيراد، والتراجع عن سياسات تصنيع بدائل الواردات.
- ثم اشتراط الدخول في الاتفاقيات الدولية والشراكات كخطوة هامة لتقسيم العمل الدولي وقطع احتمالات البدائل.
الإصلاح الاقتصادي في سورية
ولادة قطبي الفوضى عن طريق الليبرالية
غابت المنهجية عن الاقتصاد السوري بشكل واضح، ومنذ رفع لواء الإصلاح الاقتصادي، لم يحمل اتجاهاً واحداً تمّ السير عليه بشكل دقيق، إلا أن خط السير العام كان يوضح تبني سياسات التكييف والتثبيت السابقة بشكل تدريجي، ويعكس توسع دور الليبراليين ودعاة الانفتاح، مقابل تضييق دور الممانعين، والذين تحمل قلّة قليلة منهم منهجية بديلة، بينما أكثريتهم تحكمها المصالح الضيقة والعقليات المتكلسة لعدم تبني الاتجاه الجديد. هذه اللامنهجية، مع غياب التمثيل الجماهيري، وبالتالي غياب مصالح الجماهير، أعطت السيادة لأصحاب المشروع الليبرالي، وهو ما توضح بالتبني الممهنج لاقتصاد السوق «الاجتماعي» منذ عام 2005.
الإصلاح الاقتصادي، الاستثمار الأجنبي، الخصخصة، تحرير التجارة، الانفتاح الاقتصادي، الأسواق المالية، تطوير القطاع المصرفي، الدولة المشرفة، دولة الخدمات، تحرير الأسعار، ترشيد الانفاق الحكومي، مجتمع رجال الأعمال، التشاركية في المرافق الهامة، المناطق التجارية الحرة، الشراكات الأوروبية والأورومتوسطية، اللامركزية والتخطيط الإقليمي.. وغيرها من المصطلحات الاقتصادية الرنانة حمّالة الأوجه، التي أريد لها أن تحمل مع حامليها من أصحاب الياقات البيضاء وأبواق مجتمع رجال الأعمال ما يدّعى بأنه ثقافة جديدة على الاقتصاد السوري «المتكلس المؤدلج الرجعي الشمولي صاحب مبادئ التخطيط ودور الدولة المهيمن..»، لم تستطع هذه المصطلحات مع الفكر الذي حملها أن تخرج من إطار إدماج الاقتصاد السوري ضمن دائرة العولمة الشرسة، رغم أنها حاولت بضغط الواقع السوري ومفرداته أن تأتي بالثقافة الجديدة مشبّعة بأنغام عدم الافراط والحذر والحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة والقطاع العام، والشراكة معه.. ولكنها لم تقدر إلا أن تفرط نسبياً، وتعمل بتسارع مطلوب، لأن منتظري الثغرات في الخارج كانوا على إدراك تام بأن طرفي النقيض في المجتمع السوري هم العناصر الرئيسية للخرق المطلوب، وهي الأرضيّة المعوّل عليها، والمتمثلة بأصحاب المليارات وربما (التريليونات) المنهوبة من جهة، ومن جهة أخرى المستوى المطلوب من الاحتقان الاجتماعي والفقر والمهمشين. فتأتي الليبرالية لتمثل الحل الأعمق والأمتن والأقل فضحاً وإثارة للتساؤلات، وكذلك الأطول أمداً والأعمق تأثيراً، متيحة شرعية النهب، بتوسيع اقتصاد السمسرة والريع، وتأريض الاقتصاد الانتاجي موّلد التراكم والنمو وفرص العمل، ومتبنية ما يمكن تسميته بالفكر الليبرالي «اقتصاد العرض» الذي يعتمد على حقيقة أن الأسواق هي الموّلد الذاتي للنشاط الاقتصادي، وآلية عملها العفوية هي الضمانة لتسريع مفاعيلها، وما علينا إلا أن نتخلص من تكلسنا وجمودنا ونفتح صدورنا الرحبة لكل «العروض»، فالمال هو السيد ونحن العبيد، ورجعي كل من يسأل من أين يأتي؟ ومقابل ماذا؟ وقصير النظر كل من يرى أن الاعفاءات المقدمة، والضرائب المخفّضة لن تعود على الشعب السوري واقتصاده رخاءً ونمواً وعمالة، وأحادي الرؤية كل من يدعي أن النمو يتطلب قطاعات انتاجية، فالمال يولد من المال ويوّلد المال، وهذا المهم...
وقررت الليبرالية وحاملو لوائها في سورية أن القطاع العام متهالك، وهو محكوم بهذا التهالك نتيجة طبيعة ملكيته، وحكمت كما حكم العالم أجمع على الملكية العامة بموقع في صفحات التاريخ، فبدأت بخلق مسوغات بيعه وتصفيته أو تشاركه، وخشيت على المرافق الهامة كالمطارات والكهرباء المرافئ من تعفن الملكية العامة، فاستشرست لابتلاعها!.. وأعيق تثبيت العمال، وطردت مجموعات من هنا وهناك بذرائع مختلفة، وفكّت الدولة التزامها عن تشغيل الخريجين في عدة فروع، وقلّصت إنفاقها على القطاعات الانتاجية.. أما في القطاع المصرفي، فكانت الحرب على احتكار الدولة لقطاع التسليف والإقراض والادخار، وتمخضت عن بنوك خاصة وفروع لمؤسسات مالية كبرى تساهم مساهمة فعّالة في تركيز الادخارات السورية الكبرى وتشغيلها في المؤسسات العالمية، محوّلة الكم الهائل من العرق السوري نحو التشغيل الريعي، وتاركة فتات القروض الاستهلاكية كمورد ربح عال، ومؤمنة لكبار المودعين آلية محلية للتبييض، إلى أن وصلت اليوم إلى إدانة الدولة بقروض محلية قصيرة الأجل، لتمويل قطاع الكهرباء في سورية..
أمّا الأخطر فكان على صعيد دور الدولة الداعم والراعي للفئات الفقيرة ومصادر رزقها، فإجراءات إلغاء الدعم وتحرير الأسعار ، وتبني مصلحة السوق ومصلحة سادته، كانت عاملاً حاسماً في الإفقار الواسع الذي قابله غنى كبير ومركّز.
الليبرالية والمؤامرة
اللعب على القطبين الناتجين عن الليبرالية، أي الفساد الطفيلي والبيئات المهمشة المتوترة، لا يمكن أن يتم إلا بما تتيحه السياسات الليبرالية من خلق ما يسمى (الدولة الرخوة) غير القادرة على كبح جماح الفساد الذي يستشري في جميع المفاصل، ويتحول إلى منهجية ومنظومة تصبح عصيّة على الاختراق ومترابطة بقوة مشكّلة حصناً من المصالح، معيقة كل الحلول الجذرية التي تتحول إلى ضرورة وطنية في اللحظة التي تتفجر فيها الفئات المحتقنة والمغيبة، والقابلة أيضاً للاختراق والتسيير في ظل غياب العمل السياسي وتهميش لدور القوى الوطنية، وهو ما يرمي البلاد في دوامة الفوضى التي أصبح المجتمع السوري وسورية ككيان تحت رحمة مفاعلاتها وفي يد كل من يملك القرار لانتشالنا منها.
ما تحتاجه سورية اليوم، هو ذاك القرار الوطني السياسي الذي يصيب موطن الأزمة، أي الليبرالية، ليلغي كل مفاعلاتها الاقتصادية السياسية الاجتماعية، قاطعاً قطعاً تاماً مع كل السياسات التي تنتمي إليها، ومعيداً للفئات المهمّشة الكرامة والثقة الضائعتين ببتر كل يد تجبرت وحصّنت نفسها بالفساد وترابطاته، ومحاسبة كل من ساهم في التسويق والعمل الصريح لهذا النهج، والتراجع عن اقتصاد السوق الاجتماعي، والاعتذار عن انتهاجه. ذاك ما يعيد للدولة هيبتها وهيمنتها الحقيقية التي تأتي من ارتباطها بمصالح الشعب وفقرائه وتخليها عمن استقوى على المستضعفين وسرق أرزاقهم وحرمهم من حماية الدولة وتبنيها لهم.
من يعمل على أخذ هذا القرار إنما يعلن القضاء على منابع المؤامرة الداخلية، ويلفّ الشعب السوري حول الكيان الوطني بالقضاء على شعور المنفى داخل الوطن.