إفتتاحية قاسيون العدد 501: الحراك ضمانة الإصلاح
مع تفاعل الأوضاع الداخلية في سورية، يزداد تصعيد الخارج من ضغوطه وتجليات تدخله بدءاً من تصريحات ساسة بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني وليس انتهاءً بتصريحات ساسة تركيا وقطر التي لم تعد ملتبسة بل كشفت عن حقيقة نواياها، والأدوار الطامحة للعبها أو الموكلة لها ولو على حساب الوحدة الوطنية للشعب السوري الذين يدعون الانتصار له.
أما الهدف من هذا التصعيد فهو محاولة التأثير على مسار الأحداث في سورية ورفع منسوب الدم عبر تحريك القوى المتطرفة لكي ترفع من منسوب شعاراتها الاستفزازية للنظام في وقت لا تمتلك فيه تأثيراً كافياً على الأرض، والضغط على النظام بحيث لا يرى سوى انتهاج سلوك يناسب غايات الخارج التقسيمية والتفتيتية لسورية الدولة والمجتمع، عبر رفع وتيرة العقوبات على سورية ونظامها بعد أن يندفع ليس فقط لقمع من يركب موجة الحراك الشعبي من مسلحين ومرتبطين وتكفيريين بل لمواجهة الحراك الشعبي ذاته، رغم أنه تم الإقرار بمشروعيته إن كان سلمياً وذا مطالب إصلاحية واضحة، مثلما تم التوضيح أنه «ليس كل من خرج إلى الشارع هو متآمر»، وأنه لا ينبغي أخذ الغالبية الطامحة للتغيير بجريرة القلة المأجورة التي تريد حرف التغيير وإضاعة الوطن ككل.
وهكذا فإن ما «يميز» الضغط الخارجي يكمن في أن الغاية منه هي «حصر» النظام السوري، إما لكي يقدم التنازلات المطلوبة منه مراراً وتكراراً في الملفات الإقليمية والدولية، أو لإتباع الحسم الأمني كحل وحيد بارز مع إبقاء الإصلاحات بالقطّارة. وهنا فإن الاحتمال الأول يحقق غايات وأهداف الضغط الخارجي مباشرة، في حين أن الثاني يمهد لذلك على المدى المنظور والمتوسط لأنه يعيد إنتاج الأزمة ولا يجتثها من الأساس، بمعنى العلاج بالصدمة داخلياً عبر تقديم كامل رزمة الإصلاحات المطلوبة وآجالها الزمنية، بما فيها الآجال الزمنية للعمليات العسكرية والأمنية، والعلاج بالصدمة خارجياً، أي التلويح الجدي بفتح الجبهة عسكرياً والاستباق على الخارج بالانتقال إلى الهجوم لحظة لجوئه لأي عقوبات أو إجراءات عدوانية عسكرية الطابع على سورية، وهذا ليس باحتمال بعيد، لأن الموجة الأولى من العقوبات المبيتة شملت حتى الآن عدداً من الشخصيات في النظام، وتبدو معالم الموجة الثانية مع محاولات إغراق الليرة السورية في الأسواق المجاورة بهدف زيادة انخفاض قيمتها الشرائية لإثارة استياء السوريين والضغط أكثر على مصادر عيشهم المضغوطة أصلاً، ناهيك عن احتمال إغلاق التعاملات الخارجية مع المصرف التجاري السوري وإغلاق منافذ بيع النفط السوري، أي ضرب حركة الاستيراد والتصدير من أجل التأثير بميزان القوى والمزاج الشعبي في الداخل.
بعدها، ومرة أخرى بحجة حماية المدنيين على خلفية ثنائية «ارتفاع منسوب الدم، والتضخيم الإعلامي التحريضي الخارجي» يجري استحضار النموذج الليبي لاستصدار قرار دولي ذي بعد عسكري، في المرحلة الثالثة، تكون غايته في نهاية المطاف شل قدرات الجيش العربي السوري، وإنهاء سورية ودورها والتحضير لتقسيمها، من أجل تحقيق جملة من أهداف المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة ومن بينها ضمان استفراد «إسرائيل» بحزب الله والتفرغ الدولي بعدها لإيران بالمعنى العسكري، أي القضاء على محور الممانعة في المنطقة، ودائماً بعد التلطي بالدفاع عن مطالب الشعوب التي ستكون وقوداً لهذا المشروع.
فإذا كان ذلك كله يثبت أن لا ضمانات بالخارج، أي خارج، بما فيه ذاك الذي انتقلت الآن أدواره من ملتبسة إلى مشبوهة، فإنه يثبت أن الحل الجوهري وفي العمق يكمن في الداخل عبر تثبيت حقيقة تتبلور تباعاً ومفادها أن الحراك الشعبي الوطني، النظيف والواضح ومتعدد المشارب والتعبيرات السياسية والاجتماعية تحت سقف الوطن من دون تخوينه وإدانته وكبحه مسبقاً رغم إعلان إنهاء العمل بحالة الطوارئ، هو الضامن الأساسي والوحيد للإصلاحات الجدية والجذرية المطلوبة، دون أن يشوب ذلك تطرف أو شطط من أحد الأطراف المعنية بهذا الشكل من الحراك، بما يعيد بوصلة الصراع في سورية داخلياً إلى وجهتها الوطنية والاجتماعية الصحيحة، بين أغلبية فقيرة وشبه معدمة تريد لقمتها وكلمتها واستمرار مواقفها الوطنية إقليمياً ودولياً، وأقلية قوامها كبار الفاسدين والنهابين وأنصار الحلول الاقتصادية الليبرالية التدميرية غير المعنيين أساساً لا بالشعب ولا بالمواقف الوطنية ولا بمن يعبر عنها، بل ويشكلون كما نؤكد دائماً بوابات العبور للعدوان الخارجي، ولأدواته الإجرامية في الداخل.
وبناءً عليه على سبيل المثال فإن بدء تناول الإعلام الرسمي لموضوعة الفساد ومكافحته هي خطوة ينبغي استكمالها لفضح مكامن الفساد الكبير، وليس الإداري فحسب، لأنه ما لم تسم الأشياء بمسمياتها فسيبقى الإصلاح ومكافحة الفساد شعاراً لن يجد ترجمة له على أرض الواقع ولن يصل إلى نتائج ملموسة بالنسبة للقضية الوطنية في سورية وللشرائح الشعبية المتضررة من استمرار هذا الفساد، وبالتالي استمرار انعدام عدالة توزيع الثروة والإحساس بالمواطنة المتساوية بالحقوق والواجبات وأمام القانون، واستمرار أي ضبابية تم قذفها مؤخراً في الشارع السوري بخصوص صوابية تحديد الخصم الأساسي، بالمعنى الوطني، وليس على أساس مكونات ما قبل الدولة الوطنية، وما قبل المواقف الوطنية.
إن التصدي لمجمل هموم المواطن السوري ومعالجة شجونه والإجابة على كل تساؤلاته بشجاعة ومسؤولية وطنية عليا، ولاسيما في هذه المرحلة الحساسة، هو الكفيل بإعلان انتصار الوطن، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.