التجمعات وأزمة التمثيل السياسي

التجمعات وأزمة التمثيل السياسي

لم تقتصر النتائج السلبية التي خلفتها الأزمة السورية حتى تاريخ اليوم على الأضرار المادية والبشرية، بل نالت فوق ذلك من منظومة كاملة من العلاقات السياسية السورية بكل ما تحتويه هذه المنظومة من أسس دراسة وتقييم أداء الأحزاب والتكتلات والمجموعات الضاغطة في المجتمع، وكذلك أسس التمثيل السياسي السليم للفرد والجماعة، وتكاد تكون الطامة الكبرى هي تفشي ظاهرة التقييم السياسي لبعض التكتلات بالنظر إلى مدى توافق تصريحاتها (المتقلبة في كثير من الأحيان) مع الثوابت الوطنية للشعب السوري.

أسس التفريق

ساهم غياب العمل السياسي في البلاد خلال العقود الطويلة السابقة للأزمة، وبالتالي غياب الخبرة السياسية المتأتية من الممارسة، في تشتيت الرأي الشعبي خلال شهور الأزمة، ولأن «ساحة النشاط الاجتماعي لا تقبل الفراغ» ساعد الإنكباب الشعبي على تداول المواقف السياسية المجتزأة من مجريات الأزمة الناشئة على إطالة عمرها، فبات كافياً لدى البعض على سبيل المثال أن يُدلي تكتل سياسي ما بتصريحات ضد القمع والتدخل الخارجي حتى تطلق عليه صفة «المُخلِص من الأزمة»، وبالتالي يتم تبني جميع مواقفه ورؤاه وشهادات الوطنية (والمعارضة أحياناً) التي يوزعها على غيره من التكتلات، في حين أن مواقف هذه الكتل والتجمعات ذاتها متقلبة بشكل ملحوظ!، هنا يفقد هذا الموقف صفته وجوهره ويدخل في خانة «رد الفعل»، وكثيرة هي المجموعات القائمة في أساسها على مبدأ رد الفعل إزاء مجريات الأحداث السورية، ويُصوَر للبعض أحياناً أن كل الأحزاب واحدة في كيانها وأن الإختلاف الناشئ فيما بينها هو اختلاف في الرؤى والمواقف الجارية فقط، بينما يُثبت الواقع السوري اليوم أن هناك ما لا يقل عن ثلاثة أنواع من الأحزاب في سورية ومنها :

1. أحزاب الإيديولوجيا والبرامج السياسية: وهي الأحزاب التي تحمل أفكاراً ثابتة وثباتها لا يعني الجمود، قابلة للتطوير وفقاً للظروف الموضوعية، وفي جعبتها برنامج سياسي واضح يعكس الإيديولوجيا التي تحملها، وفي الحالة السورية ازدوجت مهمة هذه الأحزاب فصار المطلوب منها هو إيجاد برنامج كفيل بالمساهمة بإنهاء الأزمة الحالية وبرنامج لليوم الأول بعد انتهائها، وهذا لا يعني أن أحزاب هذا الصنف ذات برامج معلنة بالضرورة، فهنالك من يخبئ برنامجه تحت كم الكلام السياسي المشحون بقوة اللحظة لأن لا مصلحة له بإظهار برنامجه إلى العلن..

2. الأحزاب البراغماتية: وهي التجمعات التي توجد فيما بينها رؤية مشتركة اتجاه شيء محدد، ولها ما يشبه البرنامج من حيث الشكل ويفارقه كثيراً من حيث المضمون، وهذا ال«شبه برنامج» سمته الأساسية المرونة والتقلب حسب الحاجة، وغالباً ما يعوز هذه الأحزاب التنظيم الحزبي الحقيقي، وفي سورية ازدادت ظاهرة «براغماتية التجمعات» نتيجة الأحداث المتسارعة، فكثيرون هم من أدلوا بمواقف وعكسها في فترات زمنية قصيرة، وكثيرون من أدلوا بمواقف تحمل في طياتها عكس الموقف المعلن (كرفض العنف وتأييد «الجيش السوري الحر» في آن).

3. أحزاب الأفراد: وهي الأحزاب التي ترتبط مباشرة بشخص واحد، يقوم هذا الشخص بالتعديل بمسار الحزب دون الخشية من فقدان الولاء، وهذه الأحزاب تنتمي بغالبها إلى الفضاء السياسي القديم في سورية.

التمثيل الحقيقي 

إن أي تغيير مطلوب في المجتمع لن يجد رافعته الأساسية إلا عبر أحزاب البرامج المعتمدة في مسارها على حجم تمثيلها الشعبي، فإن كان تحقيق «ثلاثية الاستمرار» (التكيف ـ التماسك ـ الاستقلال) هو شرطاً من شروط الحزب الحقيقي فإنه كذلك لا يوجد إلا في أحزاب البرامج، البعض لا يريد أن تنتهي الأزمة اليوم لأن في انتهائها زواله، فهو يُدرك جيداً أن لا نصيب له من الاستمرار في ظل تنافس حزبي أساسه البرامج السياسية المُعبِرة عن المصالح الحقيقية لفئات الشعب، ولمصلحته أن يستمر مسرح التداولات السياسية مشوهاً كنتيجة حتمية لاقتتال طائفي قذر بات من يقول خلاله «لا للطائفية» مرحباً به من الأوساط الشعبية المتلهفة إلى أي حل سياسي يخرجها ويخرج البلاد من دوامةٍ تُهدد الحد الأدنى من مقومات استمرار الحياة، إن كان كل من رفض التدخل الخارجي ورفض العنف شرطين أساسيين لجلوس هذه الأحزاب على طاولة الحوار، فإنها (أي الشروط) غير كافية لتمثيل غالبية الشعب السوري، لأن الغالبية هذه ليست بحاجة إلى من يشيد بوطنيتها على المنابر الإعلامية، بل إن حاجتها الماسة اليوم هي وجود من يحمل مجموعة الأفكار والبرامج الكفيلة برفع مطالب الأكثرية المُهمشة إلى مراكز القرار السياسي ويدافع عنها، وصولاً إلى جعلها ممارسة عملية على الأرض..