القدرات العسكرية والعلاقات الاجتماعية
لعل الكثيرين عندما يتناولون الأزمة السورية الراهنة يحصرون الفكر في مراهنة لا تتعدى الأرقام المتعلقة بالقدرات العسكرية، ويطيب لهم صياغة الاستنتاجات والمراهنات على منتصر بحكم القدرات العسكرية بصورة مباشرة في المعارك الدائرة والتي تتصاعد نيرانها في حلب وبدأ لظاها يأخذ دروبه إلى دمشق.
إن الكثير من الأمثلة غير البعيدة في تقادمها عن حاضرنا تشد الفكر نحو التوقف عند العلاقات الاجتماعية ودورها وتأثيرها إن المثال الأبرز هو أن الاتحاد السوفيتي لم يكن ضعيفاً عسكرياً، وقد كان يمتلك القدرات النووية الهائلة ويصنع مختلف الأسلحة الحقيقة والثقيلة ويمتلك كنوزاً من التقنيات العسكرية، ورغم كل ذلك فقد انهارت الدولة وتمزقت إلى دول معروفة، وكذلك الأمر في يوغوسلافيا وفي دول أخرى انتهت طبيعة الدولة وأخذت مسارات الراسمالية تجد وقائعها ولم تكن تلك الدول ضعيفة عسكرياً.
لقد فعلت فعلها وقائع العلاقات الاجتماعية المتكونة تاريخياً والتي وجدت من يمسك بها ويؤججها مستنداً إلى الوقائع المتراكمة خلال عشرات السنوات.. ولسنا هنا في تناول الأهداف والسياسات الخارجية التي كانت تسم وتطبع الدولة السوفياتية. ولكن التاريخ يقدم درساً بالغ الأهمية وهو أن العلاقات الداخلية ومساراتها وماراكمته في الذهن الاجتماعي الاعتيادي كان لها الكلمة الفصل في نهاية الأمر، وقد أظهرت الوقائع هشاشة العلاقات الداخلية والانقسام الاجتماعي إلى لم تأخذ تفاعلاته ودوره على محمل الجد في المعالجة.
نجد أنفسنا أمام وقائع متقاربة مع تلك الحالة عندما يتناول البعض الأزمة السورية، حيث تجري المراهنات على الحسم العسكري الذي سيحقق النصر ويلحق الهزيمة بالطرف الآخر، ويشير البعض إلى القدرات العسكرية للنظام ويذهب البعض نحو أمور معروفة وبدهية وأهمها دعم النظام السوري للمقاومة ومساعدتها بمقومات الصمود.
طبيعي القول إنه لا يمكن تخطي تأثير تلك الخاصية لكن كل ذلك لا يجيب على جوهر المشكلة والذي ملخصه لماذا انتهت الأمور إلى أزمة سارت وقائعها نحو حرب مدمرة، ثم هل يمكن للحرب أن تبقي سورية في إطار مهامها الوطنية. وهل أصبح كل ذلك ممكناً في تعمق الانقسام الاجتماعي، وهل التبجح بإعادة إعمار البلوك والخشب والطرق هو علاج لما يترتب على الحرب من اثار.
ليس في التاريخ أكثر من الأمثلة التي تؤكد أهمية العلاقات الاجتماعية الداخلية ودورها في حصانة الوطن ويضيف التاريخ أمثلة كثيرة تشير أن النهايات لا تحددها القدرات العسكرية رغم أهميتها الكبرى، لكن الذي يحدد في النهاية واقع العلاقات الاجتماعية والإيديولوجية وسبل بناء أجهزة الدولة ودوائرها، ويقود ذلك إن الحرب الراهنة لا تخدم القضايا الوطنية ولن تنتهي إلى حالة وطنية تدعم اتجاهات سياسية خارجية ميزت سورية تاريخياً، ثم لماذا انتهت الأمور في الوضع الإقليمي وعلاقات شعوبه إلى ما انتهت إليه الآن رغم كل القدرات العسكرية التي تمتلكها إيران ورغم تحول الخليج إلى مستودعات لمختلف أنواع الأسلحة، لماذا لم يقدم التطور العسكري الإيراني الهائل المثال على أن التقدم العسكري يوطد العلاقات بين الشعوب، وهو ما لم يحصل وقد عبر الإيرانيون والأتراك عنه عندما نبهوا إلى خطر حرب طائفية في إقليم الشرق الأوسط.
والتساؤل الواضح هل يتعزز دور المقاومة ومشروعيتها وخصوصيتها في لبنان إذا تعمق الشرخ الاجتماعي السوري، وواضح أن الإجابة لا تحتاج إلى عناء فكري وأصبح بدهياً القول إن تعمق الشروخ الاجتماعية على المستوى الوطني والإقليمي لن يخدم إلا الامبريالية والصهيونية، ولن تخدم الحرب المقاومة وآفاقها وستكون عوامل إضافية لنفي شرعيتها التي فقدت الإجماع الوطني. إن دعم المقاومة في اللحظات الراهنة يندمج مع الوطنية التي جوهرها الآن يتلخص بشعار «لا للحرب» ويتطلب ذلك جملة من الممارسات التي تقطع الطريق على ما يخدم الامبريالية والصهيونية ويشكل جوهره تأمين الحقوق السياسية للشعب السوري، وفي مقدمتها تطبيق موضوعة أن الشعب هو مصدر السلطات، ولا يمكن الجمع بين الحرب ونتائجها وآثارها السياسية والاجتماعية وجعل إرادة الشعب مصدراً للسلطات خاصة وأن الحرب تعمق الانقسام الوطني وترسخ الاصطفاف الطائفي وتقود إلى وضع خطير بصورة دائمة وقابل للانفجار بصورة مستمرة، ولا تستطيع نواتج الحرب وتداعياتها أن تؤسس لحالة وطنية ديمقراطية.
إن صحة السياسة ليست في من ينتصر في تلك الحرب، كما أنها تتجاوز رؤية جانب واحد وهو أن إسرائيل والولايات المتحدة ضد النظام السوري، فذلك في الوضع الراهن يتطلب الإمساك بالحلقة الراهنة المباشرة وهي أكثر من تدمير وطن بأيدي أبنائه والخطر هو التحول نحو جعل سورية وقوداً لاستراتيجيات دولية وإقليمية وعندها لن تبقى سيادة ولا ممانعة حيث ينتفي عندها جوهر الوطن.
إن تاريخ النضال الوطني يدل بشكل قاطع أن الوحدة الوطنية هي شرط الشروط الوطنية ويؤكد أن الحرب الأهلية لا يمكنها تأمين ذلك وتنتهي إلى دول ملحقة وهشة.
إن المسألة الاجتماعية لا يعالجها بناء البلوك والرمل والحديد، إنما تغور في أعماق الوعي وتعبر عن ذاتها بموضوعات خطيرة حيث تصبح مهمة كل جهة «تحرير الأرض» من «الآخر». إن دعم سورية الآن هو إيقاف الحرب التي بحد ذاتها تشق الدروب باتجاه عزل الإرهاب الذي لم يجد مكاناً له إلا بعد الممارسات التي فاقمت الأزمة ونقلتها من مرحلة إلى مرحلة أشد خطورة، وبات من البدهي القول أن الشعب السوري كغيره من الشعوب له حقوقه السياسية كاملة وهو قادر عبر دور الممارسة من بناء دولته الوطنية الديمقراطية، ولم يعد ممكناً، ومهما كان السلاح متنوعاً وحديثاً تجاوز تلك الحقيقة التي عرفتها دول العالم بما فيها إيران، أما الدرس الآخر فإن الحرب تعمق الانقسام وتشتد بروزاً كل مظاهر الطائفية التي أكدت الحياة أنه مهما كانت الأهداف عظيمة ووطنية فإن الطائفية تودي بها، وليس بمقدور جمهورية أن تتغلب على دول رجعية إن لم تكن أسسها مبنية على الحقوق السياسية للشعب.