الانقسام الأمريكي والمنعكسات الإقليمية
يوجه السيناتور الأمريكي جون ماكين، الممثل الأبرز للتيار الفاشي العالمي الجديد، نقداً لاذعاً لـ«جون» الآخر و«سياسته الخارجية» التي يعيب عليها الأول استخدامها «قوة القول ولكن مع عصا رفيعة»، مطالباً ضمناً بالعصا الغليظة، وذلك في جلسة الكونغرس الأخيرة لمناقشة السياسة الخارجية الأمريكية ومساءلة وزيرها.
يظهر هذا الكلام بوصفه واحداً من مؤشرات عديدة على تعمق الخلاف والانقسام بين التيارين الفاشي و«العقلاني» ضمن الإدارة الأمريكية، وهو أمر منطقي ومتوقع، فطبيعة الأمور أن القوى المتراجعة تتشقق وتتشرذم. ولكنه من جهة أخرى، يعكس تسارع عملية التشرذم هذه بوصفها ضرورة لمواجهة استحقاق التراجع الحاد والمتسارع بدوره.
يستند الانقسام بين التيارين المذكورين إلى توجهين مختلفين في التعامل مع التراجع، فالفاشي يرفضه رفضاً مطلقاً ويرى في توسيع خارطة الحريق إلى الحدود القصوى مخرجاً من هذا التراجع، في حين أن «العقلاني»، إذ يؤيد الحرب أيضاً، لكنه يعرف حدود قدراته الحقيقية ويعرف أن استمرار توسيع الحرب قد يحمل خطر الانهيار الكامل لواشنطن وحلفائها، وينتهج لهذا السبب سياسة التراجع المنتظم، مستفيداً في الوقت ذاته من التيار الفاشي و«حربجيته» العالية ليحصّل أفضل شروط ممكنة لهذا التراجع.
وهكذا عند كل منعطف ينبغي عنده حسم الخيار باتجاه الحلول السياسية يبرز الخلاف ويتصاعد، ليصبح الفاشي أضعف في كل صراع جديد مقارنة بالذي قبله، ليس بسبب قوة التيار «العقلاني»، ولكن لأن الواقع الدولي يفرض تباعاً التوجه نحو الحلول السياسية، ولأن القوة الروسية تتعاظم قدرتها على لجم عدوانية واشنطن، ولعل المثال الأوكراني هو الأبرز في هذا السياق. فعلى الرغم من الجعجعة والتهويل الصادرين عن واشنطن وأوربا فإن تطور الأمور ميدانياً وعملياً يشير إلى التقدم الروسي وسيادة وجهة نظر موسكو، وإلى ظهور هذا الواقع الجديد جلياً أمام العالم أجمع، الأمر الذي يعني شيئاً واحداً مفاده الإشهار العلني للتراجع الأمريكي- الغربي أمام تقدم روسيا وحلفائها، مما يفسر الهستيريا التي يتعامل بها الغربيون مع هذا الملف.
في الإطار ذاته، وفي مراجعة سريعة للتطورات الإقليمية الموازية والمتداخلة مع الأزمة السورية، يمكن القول إن ثلاث نقاط استناد أساسية للإرهاب الدولي يستخدمها الفاشيون قد جرى التعامل معها على مراحل. قطر تم لجمها تدريجياً وتنحيتها إلى حد كبير، وقد تكون التشكيلة الأخيرة لائتلاف الدوحة أحدث الشواهد في ذلك. السعودية تعرضت لعمليات تقييد واسعة أنتجت تبدل معظم الطاقم المدير لملف الإرهاب وأنتجت «الفرمانات» المضادة ذات الصلة، بالتوازي مع التزام الرياض بالتوجيه الأمريكي للتهدئة مع طهران، الأمر الذي انعكس جزئياً في لبنان. واليوم تنتقل المعركة إلى تركيا، المركز الإقليمي الثالث الداعم للإرهاب في سورية. حيث تصاعدت مؤخراً، وما تزال، الضغوط على أردوغان في ثلاثة ملفات أساسية: (فضيحة الكيماوي، فضائح الفساد، والتسجيلات المسربة)، الأمر الذي يخدم كسر أي استقلالية نسبية له وإرغامه على السير بالاتجاهات التي يمليها «توازن» المصالح الأمريكية بين «الفاشي والعقلاني»، والتي تدل المؤشرات جميعها في ضوء الانحسار الفاشي التدريجي، على وقع تجسد ميزان القوى الدولي الجديد، على أنها اتجاهات التسوية السياسية.
وإنّ هذا السيناريو هو الأكثر احتماليةً، إلا أنه لا يلغي احتمال تصاعد التناقضات الداخلية التركية وتقاطعها مع الضغوط الخارجية باتجاه تفجير الوضع التركي و«إحراق تركيا من الداخل» وهو أمر شديد الخطورة على تركيا وسورية وعلى الوضع الإقليمي والعالمي.
إنّ مجمل هذه التطورات تجعل من المنطقي توقع تسارع التحضيرات لمؤتمر جنيف، حتى من وجهة النظر الأمريكية، وذلك لتخفيض الخسائر الناجمة عن التأخير في إغلاق ملف الأزمة السورية، أي الخسائر المرتبطة بالظهور المتسارع لتغير ميزان القوى على المستوى الدولي.