إفتتاحية قاسيون العدد 597 : آليات حماية الفساد وتدمير الاقتصاد السوري
أشارت افتتاحية «قاسيون» الأخيرة إلى المحاولات الجارية لاستكمال جبهات الهجوم وتوحيدها بهدف تحقيق أكبر تصعيد وتوتير ممكن ما قبل الحوار القادم
فإذا كان التوتير على المستويين السياسي والعسكري- الأمني قد أحرز تقدماً ملحوظاً خلال الأيام القليلة الماضية، فإن ما يتواصل التحضير له الآن هو نقل التوتر الاقتصادي إلى مستويات جديدة غير مسبوقة تكمل الدائرة المفرغة للأزمة وتترك البلاد نهباً لها وللمستفيدين منها في طرفي الصراع، وتقدم لهم احتمالاً ليس للهروب من الحساب فقط وإنما لمتابعة فسادهم ولصوصيتهم تحت أشكال وتسميات جديدة..
إن مدخل الهجوم الاقتصادي الذي يجري التحضير له، هو إقناع الناس بأن «سعر صرف الليرة السورية سينهار في وقت قريبٍ جداً وأن ذلك سيؤدي إلى سلسلة انهيارات شاملة وكوارث متتالية..» وينطلق أصحاب هذا الترويج بعد ذلك إلى القول إن سبب انهيار سعر الصرف هو عجز الموازنة الناجم بدوره- ووفقاً لما ينشرونه، ويحاولون تغطية الحقائق به– عن حجم الدعم «الكبير» الذي تقدمه الحكومة، وعليه يخرجون بالاستنتاج «العظيم» القائل بضرورة رفع الدعم نهائياً، تحت حجة «إعادة توجيهه لمن يستحق»، أي الموضوعة التي كرهها السوريون لأنهم لا يريدون أن يكونوا كمن «جرَّب المُجرَّب»، في حين يرى أصحاب ذاك الاستنتاج في كل ما جرى حتى الآن من عمليات تخفيض للدعم بوصفها إجراءات دون المطلوب..!
وقبل معالجة سلسلة المغالطات التي يحتويها الادعاء السابق يجب الوقوف عند حقيقة أن أكثر من خمسة ملايين مواطن سوري لا يحتاجون اليوم إلى دعمٍ للمازوت أو الخبز أو بعض المواد الأخرى فقط بل يحتاجون إلى كل شيء..! أي يحتاجون إلى الإغاثة.. أي أنهم يحتاجون إلى دعم مطلق في الوقت الذي تطرح فيه فكرة رفع الدعم! ويحمل الحديث عن رفع الدعم بحجة الحفاظ على سعر الصرف في هذه الحالة معنىً واحداً هو رفع التوتر الاجتماعي والاقتصادي إلى درجات قصوى غير مسبوقة تكسر كل منظومات الحماية المتشكلة في سورية تاريخياً، لينحشر السوريون رغماً عنهم في انتماءات ما قبل الدولة الوطنية الطائفية والعشائرية وغيرها بحثاً عن الحماية الأمر الذي يسمح بتمرير التوافقات المطلوبة لإعادة التحاصص بين فاسدي الطرفين..
وبالعودة إلى «الشعوذات» الاقتصادية المتعلقة بسعر الصرف، فإن الاقتصاد بوصفه علماً وليس تنجيماً يرى أن سعر العملة محكوم بالعلاقة بين الكتلة السلعية والكتلة النقدية، والانخفاض الكبير والواضح في الإنتاج الزراعي والصناعي الذي جرى خلال عامين من عمر الأزمة حتى الآن كان لا بد له أن يخفض من قيمة العملة التي ثبتت نسبياً. ويزداد الوضع سوءاً إذا علمنا بزيادة كتلة النقد، وفوقها المضاربات التي يقوم بها الصيارفة بالتعاون والتشارك مع جهات مصرفية داخل جهاز الدولة. وفي نهاية المطاف فإن ما ينعكس في سعر الصرف هو العلاقة بين كتلة البضائع التي ينتجها البلد، وبين الكتلة النقدية بغض النظر عن الانحرافات الثانوية التي تسببها المضاربات.. وأما عجز الموازنة والدعم «الكبير» المسبب له فتلك حجة «الدردري» تكررها معه اليوم جهات خارج وداخل جهاز الدولة لبعضها سمة ماسونية واضحة..!
وبالإضافة إلى محاولات رفع الدعم، فإن أداة أخرى يستخدمها الفاسدون لحماية أنفسهم والمضي قدماً في تخريب الاقتصاد السوري من خلال اختلاق عدو وهمي أمام المواطنين السوريين متمثلاً بشخص «النائب الاقتصادي»، وخاصة بعد صدور قانون العقوبات الاقتصادية الجديد الذي أمّن البنية التشريعية الملائمة لتأمين محاسبتهم. وفي هذا السياق فإن هذا النمط من الهجوم الذي يجري وبكثافة تديره منابر إعلامية معروفة الهوية والتمويل، لتخلط الأوراق في محاولة لإعاقة التقدم المستمر للضرورة الموضوعية القاضية بمحاسبة الفاسدين والتي أدت إلى إقرار القانون المذكور، بوصفه ضرورة حتمية وليس رغبة عابرة أو حالة إرادوية مقحمة.
وتماشياً مع حماية الفساد فإن وزناً لا بأس به داخل جهاز الدولة ما يزال مصراً على التعامل مع العملية الاقتصادية عموماً، ومع مهمة مكافحة الفساد خصوصاً، وفقاً للآليات والأساليب الشكلانية السابقة نفسها، التي تعني في العمق «عدم محاسبة الفساد». بل إن ما يزيد الطين بلِّة هو أن الفساد الذي نتحدث عنه اليوم ليس فساد ما قبل الأزمة بل إنه متطور ومضاف إليه «فساد الأزمة» بكل أشكاله السوداء المختلفة والتي لا تقف عند التهريب والخطف والقتل وتجارة الأعضاء بل تتعداها إلى أنماط من تجارة ونهب أشرس تنظيماً، يديره كبار تجار الأزمات و«أمراء» الحروب.
إن الحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً غير قابل للتحقيق دون حملة تطهير حقيقية لجهاز الدولة من الفاسدين الذين يعيقون، ويمانعون بشراسة وبتكافل وتعاضد فيما بينهم، وأحياناً عبر أشكال بيروقراطية أكثر وقاحة وتعقيداً، كل وأية خطوة باتجاه الحل، وهؤلاء شأنهم شأن المتشددين في طرفي الصراع بمعناه السياسي والعسكري-الأمني والاقتصادي، هم من يجب تنحيتهم من طريق سورية أرضاً ودولة ومجتمعاً، بأسرع ما يمكن، ولكن بيد الشعب السوري.