كيف يكون التغيير حقيقياً..
يفعل منطق المكابرة فعله أكثر من أي منطق آخر لدى بعض القوى في النظام الممسكة بزمام القرار لدى إقدامها على أية خطوة «إصلاحية»، وذلك ضمن عقلية أن كل شيء يبدأ من فوق، من القيادة، حتى لو كان تغييراً أو إصلاحاً، والحقيقية أن تلك العقلية ليست عقلية حزب أوشخص أو جماعة بقدر ما هي عقلية جهاز دولة أو عقلية سلطة، ونتيجةً لهذه العقلية يكون أي إصلاح ناقصاً ومبتوراً وعرضةً للفساد والإفساد بسبب غموضه من ناحية، ولأنه لم يأخذ بعين الاعتبار رأي أصحاب العلاقة، أي رأي المجتمع، في عملية الإصلاح تلك، ويمكن منخلال رصد تاريخ التحولات التي يفترض أنها إصلاحية في سورية رؤية ذلك بشكل جلي، وملاحظة العلاقة بين هذه العقلية وبين الفساد..
كان أول من أشار إلى تلك المسألة الرفيق خالد بكداش في مقاله الهام «سورية على الطريق الجديدة» في العام 1965 والذي تناول من خلاله وبشكل رئيسي التأميمات كخطوة في الاتجاه الصحيح ولكنها لن تكتمل إلا من خلال مشاركة الجماهير في إدارة نتائج العملية، وحينيقال ذلك لا يقال كشعار، بل هو ينعكس بالملموس من خلال الحريات السياسية التي تسمح بأوسع تمثيل ممكن للجماهير الشعبية في صنع القرار وإدارة مؤسسات الدولة، وحذر في حينه الرفيق خالد من تشكل البرجوازية البيرقراطية التي ترث امتيازات جهاز الدولة دون أنتملك فعلياً في حال تمت تلك التـأميمات من فوق فقط، ذلك أن الإصلاح الحقيقي يضيع في دهاليز أي قرار إذا بقي في أروقة جهاز الدولة، ولن يتنعم بثماره الموظفون كباراً وصغاراً فحسب، بل سيتم احتكاره لهم..
أثبتت الأزمة الحالية التي تعصف في البلاد والقرارات الإصلاحية التي رافقتها أمراً على درجة عالية من الأهمية وهو أن الإصلاح لن يتم بتوفر الإرادة السياسية فقط لدى القيادات في جهاز الدولة، بسبب ممانعة قوى الفساد من جهة، وخصوصاً الفساد الكبير، وبسببالبيروقراطية وقوة العادة التي تجعل روح أي نص تموت في أروقة جهاز الدولة التي يجوبها شبح الفساد. فمن إلغاء حالة الطوارئ ورفع الأحكام العرفية، إلى قانون الأحزاب والإعلام إلى الدستور الجديد والمادة الثامنة الجديدة..إلخ من قرارات الإصلاح باستثناء قانونالانتخابات الذي لا يعدو عن كونه نسخة من سابقه، يمكن القول إن كل تلك النوايا لم تنعكس على الأرض وإنها بحاجة إلى فتح المعارك الشعبية من أجل تحقيقها، ومن هنا ينبغي تحديد مواصفات التغيير الحقيقي المنشود على ضوء التجربة منذ بداية الأزمة وحتى الآن، أول تلكالصفات هو العمق: فالمطلوب ليس تحديد العمق الحقيقي للأزمة فقط بل التنبؤ بالتطورات السلبية التي قد تنشأ لاحقاً، وتجنب المكابرة والإنكار كنوع من البروبوغندا الإعلامية، وكنوع من المزاودة وبيع الوطنيات تحت حجة التصدي للمؤامرة، الصفة الثانية: هي شمولية التغييروحل الأزمات على التفرع بالوقت نفسه وليس على التسلسل وعدم تعليق كل الإصلاحات والركض وراء سراب «الحسم العسكري» على الأرض، الصفة الثالثة هي علانية التغيير وإيضاح سبل حله حتى يصبح ممكناً تعبئة الجماهير حوله وحتى تتعثر إمكانية تفريغه منمضمونه..
إن وزن قوى الفساد داخل جهاز الدولة أكبر بكثير من وزنها في المجتمع، وبالتالي فإن نقل معركة التغيير من داخل جهاز الدولة إلى جهاز الدولة والمجتمع معاً، هو بحد ذاته ضربة كبيرة لقوى الفساد وإضعاف لوزنها السياسي، ولذلك لن يكون أي تغيير حقيقياً إلا من خلالأوسع الحريات السياسية بما يسمح للجماهير الشعبية إنزال أقصى الضربات بقوى الفساد، وهذا أرخص الحلول..