السياسات الحكومية   ومتاهات جهاز الدولة

السياسات الحكومية ومتاهات جهاز الدولة

عندما طالبت الجبهة الشعبية بتشكيل حكومة وحدة وطنية في نهاية العام الفائت، أكدت حينها أن الحكومة المطلوبة يجب أن تكون حكومة مصغرة إضافة إلى أنها يجب أن تكون حكومة سياسية، أي ذات صلاحيات واسعة تمكنها من إخراج سورية من أزمة (العنف والعنف المضاد) وإيصالها إلى بداية مرحلة التغيير الديمقراطي الجذري والشامل. 

إن هذين الشرطين (الحكومة مصغرة، والصلاحيات الواسعة) هما شرطان ضروريان مشتقان من طبيعة الظرف السوري المعقد، فلو سلمنا أن ما حدث من توافق على جزء هام من برنامج الجبهة وخاصة في ملفي المصالحة الوطنية والملف الاقتصادي كان كافياً ليعبر عن النوايا الحسنة من بعض الجهات في النظام، فهذا لا يعني أننا لن نواجه مشكلة موضوعية  تعترض طريق هذا البرنامج، إن هذه المشكلة تتلخص بعقدة جهاز الدولة بما يمثله من بيروقراطية تاريخية تلتهمه فطور الفساد المنتشرة من شتى الاصناف. من الممكن أن يتم بكل بساطة ابتلاع أي برنامج جدي وحتى ما تم التوافق عليه جزئياً في برنامج الحكومة الجديدة قد يتم ابتلاعه عبر الجسم المتناثر والمترهل لهذا الجهاز وخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار البنية البيروقراطية الفاسدة والظروف الأمنية المعقدة التي تصّعب الكثير من مهمات ضبط ومراقبة آليات وأدوات عمل هذا الجهاز.

إن البنية البيروقراطية الفاسدة هي منظومة متكاملة ومتجذرة في جهاز الدولة القائم، وهذا يعني أن أي برنامج ومهما كان تقدمياً من الصعب أن يمر دون أن يواجه هذه البنية الثقيلة والتي لن تجابه هذا البرنامج فحسب بل ستسعى إلى ابتلاعه وتأريضه، من هنا كان إصرار الجبهة الشعبية على  فكرة الحكومة المصغرة والتي تعني بمعنى آخر تصغير دائرة اتخاذ القرار، وهو ما يساعد على السرعة والفاعلية والحسم على مستوى القرارت الحساسة. إن مرحلة الاستعصاء الخطيرة التي وصلت إليها البلاد أفرزت نتائج أمنية وإنسانية واقتصادية كارثية وهي مرشحة للاستمرار ما لم تكسر هذه الاستعصاءات، وهو ما دفع الجبهة الشعبية للقبول بالمشاركة في الحكومة الجديدة التي جاءت توافقية، وذلك لدفع عملية التغيير بالاتجاه الصحيح  كحل آني رغم كل الصعوبات.. إن هذا الواقع يتطلب حلاً ذكياً قد يتجسد في تصغير دائرة اتخاذ القرار على مستوى الإدراة العليا مما يسهل حسم التوجه العام، أما على مستوى الآليات المنفذة لهذا القرار والمرتبطة عملياً بجهاز الدولة وبنيته القديمة والتي قد تجعل من عملية تنفيذ هذه القرارات عملية غير مجدية خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصالح قوى الفساد الكبير تتعارض مع قرارات كهذه، حيث إن هذه القوى تاخذ من جهاز الدولة مطية لها ما يجعل من هذا الجهاز الحلقة الوسيطة التي يضيع فيها كل جهد مبذول لانجاز القرارات الحاسمة، إن الحلقات الوسيطة في جهاز الدولة أي الحلقات بين متخذ القرار ومنفذه هي غالباً الأشد ارتباطاً بالفساد فهي أدوات التحكم غير المرئية التي يستخدمها الفساد الكبير لضرب أية مهمة إصلاحية. إن هذا الوضع يتطلب بشكل حاسم في هذه اللحظة ليس فقط تصغير دائرة اتخاذ القرار بل يتطلب ايضا تصغير المسافة بين متخذ القرار ومنفذه، مما يقصي الواقع البيروقراطي والفساد في جهاز الدولة عن العبث في تنفيذ القرارات ويسرع أيضاً في تنفيذها بالاتجاه الصحيح. إن الاجراءات التي تصفي الواقع البيروقراطي لجهاز الدولة باتت ضرورة مهمة وملحة لا يمكن التعامل معها بالعقلية المتساهلة أي (عقلية مشاريع الإصلاح الإداري والمؤسساتي) فنحن في هذه اللحظة في سباق مع الزمن فكل خطوة أو إجراء لا يمكن أن تفعل فعلها إلا في توقيتها المحدد، وإن أية عملية تأخير تعني إسقاط الهدف المنشود. إن انتظارنا حتى تحقيق انجازات في الإصلاح الإدراي ستكلف صانعي القرار مهمات أكبر من قدراتهم وهو ما سيسمح بإسقاط أي مشروع إصلاح جدي، من هنا تأتى فكرة القيام بإجراءات استثنائية تفتح طرق غير تقليدية تكون قصيرة وسريعة بين متخذ القرار ومنفذه، إن مهمة هذه الطرق حاسمة في هذه اللحظات الحساسة ولا مجال للتقدم دون إنجازها فجهاز الدولة في هذه اللحظات بحالة شلل وهو ما يسمح لقوى الفساد بأن ترتع دون حسيب أو رقيب، وهو ما يستدعي إنجاز قنوات سريعة الاتصال وهو ما يتطلب أيضا كسر العقلية البيروقراطية التي يفكر بها صناع القرار في هذه اللحظات الأمر الذي نضعه برسم الفاعلين في الحكومة الجديدة..