«جنيف» ضمن التفاعلات الدولية الجديدة
يعود الحديث عن مؤتمر جنيف إلى واجهة الحدث السوري بعد غياب لم يتجاوز الشهرين، وتأتي العودة هذه المرة نتيجة وترجمة واضحة لمجموعة من الأمور الداخلية والإقليمية والدولية التي من الممكن تلخيصها بما يلي:
أولا، إنّ قصر «الوقت المستقطع» بين نهاية الجولة الثانية وانطلاق الجولة التي ستليها، مقارنة بالوقت الذي صرف بين «جنيف-1» وبين انعقاد «جنيف-2»، يعكس تسارعاً كبيراً في عملية ترجمة التوازن الدولي الجديد على الساحة العالمية، تسارعاً في التراجع الأمريكي- الغربي، وتسارعاً في صعود الروس وحلفائهم. وهو تغير إيجابي يخدم قضية الشعوب جميعها لأنه يكرّس تراجع عدوها الأول «واشنطن»، وينبغي لذلك التفاعل مع هذه العملية إيجابياً وتقديم كل ما يلزم لتسريع وتائرها، بما فيها سياقات ومسارات حل الأزمة السورية.
ثانيا، إنّ جنيف، وفي السياق ذاته، هو هجوم من الحركة للقوى المناهضة للهيمنة الأمريكية وهو، بعد التشكيك الروسي المعلن رسمياُ بأهلية واشنطن للعب دور الراعي لجنيف في ظل سلوكها المعرقل، سيتحول إلى نقطةٍ جديدة لتثبيت التوازن الدولي الجديد بعد أن شارفت هذه المهمة على الانتهاء بخطوطها العريضة في أوكرانيا، تزامناً مع سلسلة الهزائم الجزئية التي يعانيها معسكر واشنطن في مصر، وفي تشقق مجلس التعاون الخليجي، وتأزم الوضع التركي، والتفاعلات المالية على النظام المالي العالمي الناجمة عن العقوبات الغربية على موسكو وردود الفعل الروسية عليها، وغير ذلك من التراجعات التي تعيشها المنظومات والمؤسسات التابعة لهذا المعسكر والتي غدت ظلاً لتوازن قديم آن زمن إزاحته عن وجه الأرض.
ثالثا، إنّ العودة إلى جنيف تؤكد مرةً أخرى على أن الحل السياسي للأزمة السورية استحقاق موضوعي لا بديل عنه، وأن انعقاد المؤتمر بحد ذاته إذ شكل في حينه هزيمة وفشلاً لكل المتشبثين بمقولات «الحسم» و«الإسقاط»، فإن انعقاد جولة جديدة منه تؤكد أن ما فشل في الجولات السابقة ليس فكرة الحل السياسي وإنما التصور الأمريكي عن أسلوب هذا الحل ومخرجاته. أي أنه إذا كانت الرؤية الأمريكية للحل السياسي قد منيت بالفشل، فإنّ الإعلان عن الجولة الجديدة يعني أنها ستدار بمنطق مختلف يلبي الضرورات الموضوعية بشكل أفضل، على صعيد كل من تمثيل المعارضات السورية وجدول الأعمال، والتمثيل الإقليمي.
رابعاً، وإذا كان المناخ السياسي الذي وفره انعقاد «جنيف-2»، رغم عيوب التمثيل، قد سمح بإجراء سلسلة من الهدنات والتسويات التي انعكست إيجاباً على مجمل الشأن السوري، وسمح بحلحلة بعض القضايا الإنسانية العالقة، فإنّ جولةً قادمة بتمثيل أكثر موضوعيةً ستسمح بتقدمٍ واسع وسريع في هذه المجالات الضرورية والعاجلة.
خامساً، إنّ صمود الهدنات والتسويات رغم تعثر جنيف، يدلل على حاجةٍ موضوعية لها، ويشير إلى رغبة شعبية واسعة في استمرارها وتوسيعها، الأمر الذي يقدم اثباتاً إضافياً على صوابية التوجه نحو الحل السياسي وغياب أية بدائل حقيقية له.
سادساً، إنّ نجاح جنيف في تحقيق مهماته الثلاث الأساسية: (إيقاف التدخل الخارجي، وقف العنف وإطلاق عملية سياسية) بما يتضمنه ذلك من محاربةٍ للإرهاب، يعني تأميناً للحد المطلوب من الوحدة الوطنية لاستكمال إنهاء العنف ومحاربة الإرهاب عبر إطلاق عملية سياسية حقيقية تمهد لإحداث التغيير المطلوب.
تلقي جملة الحقائق السابقة على كاهل الوطنيين السوريين مسؤولية إضافية تتمثل بإنجاح جنيف، وذلك عبر الضغط لسحب جميع «الأوراق» من يد ائتلاف الدوحة وأشباهه وعلى رأسها حل ملفات المعتقلين السوريين والمخطوفين والمهجرين الذين لا يجوز بأي من الأشكال تحويلهم إلى أوراق للتفاوض، وإلا فإن إبقاء هذه الملفات معلقةً سيعني منح عملاء واشنطن حق الحديث باسم جزء من الشعب السوري الأمر الذي لا يمس السيادة الوطنية فحسب، بل وينتهكها.