تركيا: بين المصلحة الوطنية.. والارتهان للغرب
كان لخيارات الحكومة التركية تجاه الأزمة السورية انعكاسات ضارة بالمصلحة الوطنية التركية، فمن تضرّر مصالحها الاقتصادية في الشرق، إلى مشاركة الغرب في دفع ضريبة تراجع سياساته في منطقتنا
كثيراً ما كانت الأنظمة الحليفة للغرب تنطلق في تبريرها لذلك التحالف من مقولة «المصلحة الوطنية» لبلدانها؛ هذا الزعم كان سارياً في مرحلة ما سمي بالأحادية القطبية الأمريكية في السياسات الدولية، وتراجع قوى المعسكر الاشتراكي في العالم، والذي كانت ذروته تفكّك الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. صدّرت تلك الأنظمة خطابها هذا كنوع من «الواقعية» السياسية، واستندت في ذلك إلى بعض انتصارات السياسة الأمريكية، التي ترتّبت على انتصار للقطب الأمريكي وقتذاك. إلّا أن الواقع لاحقاً، ولاسيما اليوم، أثبت أن تلك الرؤية كانت خاطئة بالمعنى الاستراتيجي، وأنّها انطلقت من زاوية ضيقة في لحظة تاريخية قصيرة؛ فما إن مضى عقد على تفكّك الاتحاد السوفيتي حتى بدأت مؤشّرات التراجع الأمريكي، اقتصادياً، وظهور الملامح الأولى للأزمة الرأسمالية العالمية، ومن ثم انفجار تلك الأزمة في عام 2008، وبداية ترجمة التراجع الاقتصادي الأمريكي سياسياً وعسكريّاً في المرحلة الراهنة..
ينسحب هذا الأمر على الدور التركي، بالإضافة إلى الخليج وبقية الأنظمة المتحالفة مع الغرب في منطقتنا، إذ تشتدّ أزمة تلك الأنظمة مع اشتداد الأزمة الأمريكية، اقتصادياً وسياسياً، وتتعمّق أكثر فأكثر مع تحمّلها ضريبة الخيارات الأمريكية في منطقتنا.
تركيا نموذجاً..
بقيت مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي مستعصية خلال العقد الفائت، تكرّرت إشارات الرفض الأوربي لهذا الانضمام، من خلال إثارة ذرائع شكلية، إلّا أن أسباباً اقتصادية عميقة كانت تثني الدول الأوربية الكبيرة عن القبول بانضمام تركيا، أبرزها أن هذه الأخيرة كانت في طور التحوّل إلى منافس جدّي لتلك البلدان، بما حققته من تقدّم صناعي. لجأت حكومة أردوغان في أواسط ذلك العقد إلى التوجه شرقاً باعتباره خياراً وحيداً أمامها، الأمر الذي أدّى بدوره إلى ازدياد نمو الاقتصاد التركي- بلغ 8% ، وناتج محلي إجمالي تجاوز ال414 مليار دولار، في عام 2007- وتحسنت العلاقات الاقتصادية مع العديد من بلدان المنطقة، سورية وإيران والعراق. إلا أن باب الاتحاد الأوربي بقي موصداً، ليس أمام تركيا فحسب بل أمام أي وزن اقتصادي صاعد يمكن له أن يحافظ على درجة معينة من الاستقلالية.
ثمّ كان انفجار الأزمة السورية، في مطلع عام 2011، وذهاب حكومة أردوغان باتجاه خيار مشاركة الدول الغربية في التدخل العسكري غير المباشر في سورية، وتحول المناطق التركية الجنوبية إلى منصّة لانطلاق هجمات «القاعدة» إلى الأراضي السورية، والتي كان آخرها الهجوم على منطقة كسب في شمالي البلاد، وتورّط القوات التركية مباشرة في تغطية هذا الهجوم. خيار الحكومة التركية هذا كان قد أثّر منذ بدايته على علاقاتها الاقتصادية التي كانت قد بنيت قبل نحو عقد مع بلدان المنطقة، ففيما عدا انقطاعها على نحو شبه كامل مع سورية (تبادل تجاري كان يبلغ 5 مليار دولار)، أعاقت الحرب في سورية، بالإضافة إلى التوتر الأمني الموجود أصلاً في العراق، حركة البضائع التركية باتجاه دول المنطقة التي تقع إلى جنوب وشرق تركيا، وقيّدت حركة أسطول النقل البرّي التركي (الأسطول الأكبر عالمياً)، فضلاً على انعكاسات التدخل التركي على المصلحة الوطنية التركية العامة، السياسية والعسكرية، كونه يحمل خطر انتقال الحرب السورية إلى تركيا التي باتت تعاني من تناقضات جديدة مع استمرار تلك الحرب. وبقي من علاقات تركيا مع دول الشرق تقاربها مع إيران- من المتوقع أن يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 30 مليار دولار بحلول العام المقبل- إلا أن هذا التقارب يحمل أيضاً ضريبة سياسية يترتب على الحكومة التركية دفعها، وتتمثّل في ضرورة تعديل سياسات هذه الأخيرة من سورية جذرياً.
وفي المحصّلة، تدفع تركيا اليوم ثمن خيارات حكومتها إزاء الأزمة السورية، وذلك بفقدانها رافعة النمو الاقتصادي ومقومات المصلحة الوطنية التركية، نتيجة فقدان قسم واسع من علاقاتها مع بلدان المنطقة والشرق عموماً، في الوقت الذي لم تنعكس عليها خياراتها تلك بانفتاح علاقاتها الاقتصادية ومصالحها مع الغرب، الذي بات مأزوماً بدوره ويكتوي بنيران الأزمة الرأسمالية العالمية. ومن جهة أخرى يؤكّد هذا الأمر فشل النموذج الإخواني في الحكم، والذي تعد حكومة أردوغان إحدى ركائزه في المنطقة، نتيجة استمرار رهانه على السياسات الغربية التي تواصل تراجعها في منطقتنا والعالم.