مجموعة البريكس والثنائية القطبية الجديدة...!!
ترسخ في الذاكرة السياسية حتى أواخر القرن الماضي فكرة وجود قطبين مهيمنين على الساحة السياسية العالمية، وهما (الاتحاد السوفيتي – الولايات المتحدة الأمريكية) وقد دامت هذه الحالة مدة سبعين سنة من عمر البشرية، ولا يخرج الحديث السائد اليوم عن ظهور دول البريكس كقطب مقابل للولايات المتحدة الأمريكية عن هذا الوعي السياسي المرتبط بحقبة قصيرة من تاريخ البشرية، كتناقض رئيسي جديد، وهو كشأن سابقه يخفي من خلفه التناقض الأساسي الجوهري بين الجماهير المستغَلة والطبقات المستغِلة لها، وبعبارة أخرى التناقض بين العمل ورأس المال..
بالعودة إلى التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة للرأسمالية (العبودية – الإقطاعية) وحتى بداية الرأسمالية كان التناقض الحقيقي بين الجماهير والطبقات الكادحة كقطب والطبقات المستغلة لها واضحاً في الصراع القائم بينهما، وقد استمر الأمر على هذه الحال حتى الحرب العالمية الأولى وانتصار ثورة أكتوبر في روسيا الحلقة الأضعف في سلسلة الدول الرأسمالية، وكان ذلك تتويجاً للحراك الجماهيري السائد في حينه، فأصبح الاتحاد السوفيتي بذلك القطب (الجهة) المعبرة عن مصالح هذه الجماهير في روسيا، وامتد هذا القطب بعد الحرب العالمية الثانية (والتي كانت من نتائج أزمة الكساد الكبير عام 1929م) ليشمل ثلث العالم بعد تشكل منظومة الدول الاشتراكية، مع تراجع دور الدول الاستعمارية التاريخية (فرنسا - إنكلترا)، وانتقال مركز الهيمنة الرأسمالية إلى أمريكا الرابح الأكبر من الحرب العالمية الثانية، لتصبح بذلك الجهة المعبرة عن مصالح الطبقات البرجوازية، وكان وقوف الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في وجه العدوان الذي تم على قناة السويس في سنة 1956م بمثابة إعلان للوضع الدولي الجديد، والمعبر عنه بصعود القوتين المذكورتين، وظهور ما يسمى بالحرب الباردة لاحقاً بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، إلا أن تراجع الحراك الجماهيري منذ أواسط الخمسينيات من القرن الماضي حوّل التناقض من تناقض قائم بين جهة تمثل مصالح الجماهير والطبقات الكادحة وجهة تمثل الطبقات المستغلة لهذه الجماهير بشكل مباشر، إلى تناقض أخذ شكل صراع دولي وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي انتقل العالم إلى ما عرف بعالم أحادي القطب والذي ساد طيلة عقد ونيف من الزمن، بلغت فيها الرأسمالية قمة أزمتها بما أصبح ينذر بوصولها إلى نهايتها..
جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008م لتؤكد مرة أخرى على انتهاء النظام الرأسمالي بالمعنى التاريخي، تبعها نشاط جماهيري واسع بالمعنى العالمي، فهو لم يقتصر فقط على الدول العربية بل امتد ليشمل أوربا وأمريكا حتى الآن، وجاءت الأزمة السورية في وقت باتت فيه ملامح تراجع الدور الأمريكي على الساحة العالمية وفقدانه زخمه السابق نتيجة الأزمة الاقتصادية، وما ظهور دول البريكس على ساحة السياسة الدولية- بجزء منه- إلا دليل على هذا التراجع، أما ظهورها دون غيرها يعود إلى كونها تمتلك مواصفات الدول العظمى من توافر أعداد كبيرة من القوى البشرية وثروات باطنية ومساحات جغرافية واسعة....إلخ، وهي لا تمثل قطباً مقابلاً للولايات المتحدة الأمريكية إلا من موقع المنافسة على السوق العالمية التي استهلكت بأكملها رأسمالياً ولم تعد موضعاً للمنافسة، وبذلك فهي ليست بمنأى عن الأزمة الاقتصادية العالمية بالرغم من نسب النمو العالية المحققة في بعض هذه البلدان إلا أنها نسب تتراجع عاماً بعد آخر كالصين مثالاً (عام 2012 8-9 % - عام 2011 9،2 %- عام 2010 10،3 %)، وهو ما يحتم موضوعية وضرورة سيرها بعيداً عن الرأسمالية المُستهلكة، لتحافظ على صعودها.
وبذلك فإن الثنائية القطبية العالمية الناشئة ليست استنساخاً جديداً للثنائية القطبية السابقة، وإن كانت مجموعة البريكس بمواقفها الحالية في الأزمة السورية كمثال، تميل لمصلحة الجماهير بإيقاف التدخل العسكري المباشر في سورية واتخاذ مواقف حازمة في مواجهة مخططات الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الغربي، إلا أن الاصطفاف الحقيقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لمصلحة الجماهير لم ينضج بعد، وهو ما يلقي بظلاله على الوضع السوري، ويدفع باتجاه الاستفادة من التوازن الصفري الدولي القائم (حتى هذه اللحظة) والالتفات إلى الداخل السوري لخلق الأدوات اللازمة للخروج من الأزمة باتجاه تحقيق التغيير الجذري الشامل لمصلحة الشعب السوري كله أياً كانت انتماءاته السياسية طالما أنها تحت سقف الوطن، وإيقاف الحل الأمني في التعامل مع الحركة الشعبية السلمية..