نحو فهم حقيقي لمفهوم المعارضة
تعمد الكثير من القوى المنضوية اليوم تحت مسمى معارضة إلى اجترار الأساليب البالية التي تنتمي إلى مرحلة الفضاء السياسي القديم، ولعل أشهر تلك الأساليب، وأغباها على وجه الإطلاق، هو ممارسة السياسة كنوع من المقامرة على ملء الفراغات السياسية المتشكلة في لحظة معينة «حاسمة»، وذلك عبر الاختباء خلف دزينات من الشعارات البراقة بهدف الكسب المجاني والسريع لأفواج الجماهير، في حين أن البرنامج الفعلي يبقى في الخفاء بانتظار اللحظة التي لا يكون على الجماهير إلا تنفيذ حكمة أحد أولئك الذين نصبوا أنفسهم «قادة» عليهم، ويكمن الغباء في اعتناق تلك الأساليب في أنها أصبحت تتناقض بشكل صارخ مع درجة الوعي السياسي المتصاعد في صفوف الجماهير التي إذا ما وصلت إلى درجة معينة ستطيح بكل من زاود وكذب عليها في لحظات الأزمة العصيبة..
ينطبق هذا الوصف على الكثير من قوى المعارضة القديمة والجديدة التي تعلمت تلك الأساليب من النظام الذي تعارضه نفسه، وإذا كان «يشفع» لبعض تلك القوى أنها اضطرت لهذه الأساليب بسبب قتامة برامجها ولا وطنيتها وارتباطها بالخارج، فمن المضحك أن بعض الشخصيات التي تحمل تلك العقلية حاولت ممارستها من داخل صفوف المعارضة الوطنية التي تمتلك برنامجاً ناصعاً يعبر عن مصالح غالبية السوريين الرافضين للعنف والاقتتال الداخلي والتدخل الخارجي والمطالبة بالتغيير الجذري الشامل، وسنختار نموذجاً من تلك الشخصيات السيد شادي جابر الذي كان منضوياً في التيار الثالث، والذي سارع إلى تقديم استقالته من التيار ومن الائتلاف على خلفية مشاركة الجبهة الشعبية في الحكومة الجديدة. وتنبغي الإشارة إلى أن الاختيار قد وقع على هذا النموذج ليس بسبب أهميته، إنما بسبب عكس ذلك بالضبط. ذلك أن مثل هذا النموذج، وبسبب بساطته، يكشف عن كل عيوب العقلية القديمة على نحو أكثر وضوحا، لنرى كيف تبين ذلك..
نشر موقع «خارج السرب» مؤخراً مقالة للسيد شادي جابر بعنوان «خطوة هزيلة تضع العربة قبل الحصان» يعتبر فيها السيد شادي «مشاركة الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في الحكومة الجديدة تمثل تعارضا مع محتوى وجوهر الورقة المشتركة التي تم تشكيل ائتلاف قوى التغيير السلمي على أساسها، وانزياحاً عن خط الائتلاف...» ثم يشرع كاتب المقال بطرح تقييمه الخاص لهذه الخطوة بأنها «خطوة هزيلة متسرعة وسابقة لأوانها»... في حين أنها كانت يجب أن تأتي في إطار «عملية سياسية حقيقية شاملة تبدأ بالحوار باعتباره المدخل الأمثل لحل الأزمة الوطنية الشاملة والمستعصية، وتؤدي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية بصلاحيات واسعة...»..
لا يختلف اثنان من المعارضة الوطنية على ضرورة الحوار للوصول إلى حكومة وحدة وطنية كمخرج من الأزمة، وقد كانت الجبهة الشعبية أولى القوى المعارضة التي دعت إلى ذلك، وانفردت بهذا الطرح في بداية الأزمة عندما كانت قوى المعارضة الأخرى تتملق الجماهير وتزاود عليها برفض الحوار، وسعت بحجة ذلك إلى إقصاء الجبهة الشعبية من صفوف المعارضة، اليوم يتكرر هذا الإقصاء نفسه وهذه المرة تحت شعار الحوار ولكن ضمن الشكل الذي يرتئيه السيد شادي، حواراً وردياً لمرة واحدة وإلى الأبد بدون أي تمهيد وبدون بذل أي مساع أو جهود، فإذا لم تتيسر تلك اللوحة فلا يمكن حل الأزمة التي ستبقى «مستعصية وشاملة»؟؟ وفي ظل توازن قوى دولي وداخلي محصلته صفرية، لا تسمح بتقدم أحد الأطراف على الآخر، بما يجعل الأزمة «مستعصية وشاملة» هل سيبدأ ذلك الحوار من تلقاء نفسه؟ أم سيبدأ بمجرد اقتناع السيد شادي بذلك؟ إن الحوار هو الحل الوحيد ضمن الظرف الدولي والداخلي ولكنه بحاجة إلى خطوة جريئة باتجاه تظهيره كحل وحيد، فإلام يدعونا كاتب المقال؟ انه يدعونا للركون في خندقه حتى تصل رسالته التبشيرية في الحوار إلى الجميع، وحتى ذلك الحين ستبقى الأزمة «شاملة ومستعصية» فحسب..
يذهب الكاتب فيما يلي من نص مقاله إلى تفنيد بنود الورقة المشتركة للإئتلاف ويبدأ من موقع هش: إن مشاركة الجبهة في الحكومة تتناقض مع البند القائل « تأكيد استمرار خيارنا المعارض للنظام ولكل المظاهر السلبية في الحراك» لماذا؟ لسبب مذهل وهو أن «الجبهة أصبحت جزءاً من النظام» وبهذا يتراجع الكاتب عن الخطوة التي خطتها المعارضة الوطنية، والتي جعلتها تتمايز عن بقية القوى، والتي تتمثل بالخروج خارج أطر الثنائية الوهمية «نظام- معارضة» وإعادة الاعتبار لمفهوم المعارضة على أساس البرنامج الوطني والسياسي والاقتصادي- الاجتماعي، وهو ما تمايزت به الجبهة عن بقية القوى منذ البداية، وهو ما يميز برنامج الائتلاف عن بقية قوى المعارضة، وهو لا يزال برنامج الجبهة بعد دخولها إلى الحكومة، ومن هنا كان تصريحها الأول بأنها معارضة حتى مع دخولها إلى الحكومة، لأن الذي يحدد ذلك هو البرنامج المعارض لبنية النظام الحالي، وليس أي تصنيف آخر، كتصنيفات الكاتب التي تستند إلى معيار القرب أو البعد عن جهاز الدولة، وبهذا يكون الكاتب قد خطا خطوة إلى الوراء، إلى صفوف المعارضة الوهمية المنتمية إلى الفضاء السياسي القديم، وفي هذه المناسبة نسأل الكاتب إذا كان دخول أية حكومة هو انضمام تلقائي للنظام، فهل يكون السعي من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية هو سعي للدخول في صفوف النظام؟؟
وبسبب قلة الحيلة والمهارة، لا يضيف الكاتب فيما يلي إلا مجموعة من الاقتباسات من ورقة الائتلاف ويتبعها إما بتعليقات مقتضبة أو بمجموعة إشارات الاستفهام، ليعبر عن امتعاضه النفسي الشديد وعجزه عن الاجتهاد في مناقشة جوهر الخطوة التي وصفها بـ«الهزيلة» وينهي مقاله بالأسف على الجهد الذي بذل على تشكيل الائتلاف، وتشكل عمليا هذه الاقتباسات جزءاً من برنامج عمل الجبهة والائتلاف كـ« التوجه إلى الكتلة المجتمعية والشعبية التي لم تنضم إلى طرفي الصراع العنيف..والتي ترفض العنف والاقتتال الداخلي والتدخل الخارجي... و حوار الطاولة المستديرة.. إطلاق سراح المعتقلين.. وإيقاف الحلول الأمنية وفتح المجال لتقدم الحلول السياسية..واستنهاض فعاليات التغيير السلمي من أجل التظاهر والاعتصام....الخ» فهل يضع الكاتب برنامج الجبهة برسم الجبهة وكأنه يحذرها من مغبة التنطع إلى هذا البرنامج بمفرداته الساخنة؟ أم هي مساومة للجبهة على برنامجها في حال طاب «المنصب الحكومي» وتنصلت منه؟ فهل هي مصادفة إن تتطابق عقلية كاتبنا مع عقلية النظام نفسه الذي ماانفك يساوم بالطريقة نفسها؟ كلا، فهي عقلية فضاء سياسي قديم كامل يلفظ أنفاسه الأخيرة..
يبدو أن مسألة الخروج من الأزمة أصبحت شبحاً يؤرق أولئك الذين وجدوا فيها مزاداً للصعود على الساحة السياسية مقابل إطلاق الشعارات الطنانة والمزاودة بدماء السوريين، وكلما تقدمت البلاد خطوة باتجاه الحل الحقيقي للأزمة كلما أفلس الذين امتهنوا الغباء الانتهازي طريقاً سهلا لإعادة كل شيء إلى الوراء..إلى حيث يقفون..