النهوض الشعبي وعودة الروح الجماعية

النهوض الشعبي وعودة الروح الجماعية

كان النهوض الشعبي الجديد من سبات عقود طويلة، ورغم عفويته وأخطائه، يمثّل خطوة أولى على طريق التغيير السياسي استجابة للضرورات الاقتصادية-الاجتماعية كمحرّك أساسي، ولاسيما أنّ النظام الرأسمالي العالمي وصل إلى ذروة أزماته وعجزه عن تقديم أية حلول لمشاكل البشرية.

لطالما كانت العقود الماضية أشبه بممر يضيق أكثر فأكثر على البشر بحيث يضطرون إلى دوس بعضهم بعضاً حتى يشقوا طريقهم للعيش بالحد الأدنى، هذا الأسلوب في الحياة الذي يمكن قبوله عند الحيوانات كونها لا تملك الوعي للتحكم بقوانين الطبيعة بل تنصاع إليها وتدخل معركة التنافس والبقاء للأصلح عبر الاصطفاء الطبيعي، يصبح عند الإنسان نموذجاً لمأساته التاريخية، لأنّه ورغم وعيه وصل إلى حالة شبه حيوانية، بحيث يسعى كلّ فرد إلى تحقيق مصلحته بأي شكل كان، عبر الفساد المادي والأخلاقي والواسطة والمحسوبيات، التي يمكن أن نسميها أدوات الخلاص الفردي في أشد مراحل البشرية انحطاطاً، مرحلة تفاقم أزمات الرأسمالية المعولمة.

تتميز هذه الظاهرة بانتشار واسع وكثيف في بلدان العالم الثالث خصوصاً - بلدان الرأسمالية الطرفية التابعة اقتصادياً للمراكز الإمبريالية، لأنّ أنظمة هذه البلدان مبنية أصلاً وفق مخططات ساهمت في تصميمها «الديمقراطيات» الغربية، ذاتها التي تقوم اليوم برعاية المعارضات اللاوطنية لهذه الأنظمة، ولطالما دارت رحاها بوساطة حجرين (القمع والفساد)، كانا يطحنان شعوبها ويكرسان في واقع الحياة العملية منطق الخلاص الفردي واغتراب الإنسان عن مجتمعه وبالتالي عن نفسه.

تأتي الحراكات الشعبية محاولةً البحث عن طرق جديدة في العيش، حيث تحاول مجموعة كبيرة من البشر توحيد جهودهم وأهدافهم لتحقيق مصالحهم العامة بدافع من الهمّ الجماعي، مما يمهد الطريق لنسف عقلية الخلاص الفردي الأناني، وتبني الناس للحلول المجتمعية الشاملة، لكنّ تطور هذه الظاهرة ليس بسيطاً، بل يخضع لديالكتيك العلاقة بين القاعدة والبنية الفوقية، فعقلية الخلاص الفردي من حيث انتمائها إلى البنية الفوقية الفكرية والتربوية لأسلوب الحياة المادي في المجتمع الرأسمالي، تبدي مقاومة وعطالة للتغيير، وربما تتأخر عن اللحاق بالمتغيرات الاقتصادية، عندما تتمكّن من فرضها القوى الطبقية العمالية والشعبية المناهضة للرأسمالية. لكن السؤال هو هل تأخذ هذه العلاقة بالنسبة للوعي الاعتيادي العفوي عند الجماهير المحددات نفسها بالنسبة للوعي السياسي الطليعي؟ أم ينبغي على القوى السياسية أن تربي نفسها على التخلص من عقلية الخلاص الفردي بين صفوفها، وتضع البرامج لحلول مجتمعية شاملة، حتى تمتلك المصداقية والقدرة على مخاطبة الجماهير ونقل القناعة بجدوى هذه الحلول إليها؟

يعتمد النجاح في ذلك جزئياً على التمثيل الطبقي الموضوعي لهذه القوى السياسية، بغض النظر عن التمثيل الذي تدّعيه هي لأنفسها. فالأحزاب السياسية التي تعكس مصالح الطبقات الكادحة الفقيرة والمستغلّة، هي الوحيدة القادرة الآن على وضع برامج تقدّم حلولاً مجتمعية حقيقية، والتي لا بدّ أن تطرح في جانبها الاقتصادي-الاجتماعي مهمات قابلة للتطبيق لإعادة توزيع الثروة على مستحقيها من المنتجين المنهوبين، بعد وضع اليد على مصادر الثروة غير الشرعية للفاسدين الكبار. هل تستطيع الأحزاب السياسية التي تنتهج في سلوكها العملي عقلية الخلاص الفردي والفئوي أن تطرح أمام الشعب برنامجاً حقيقياً لحلول مشاكله؟ إنّ نهجاً سياسياً كهذا، سواء وجد في صفوف النظام أو المعارضة، يتناقض في التطبيق العملي مع الوحدة الوطنية لأنه يرسخ الفساد والواسطة والمحسوبية وعدم المساواة بين المواطنين وغياب العدالة الاجتماعية. وبعد الأزمة الكبرى للرأسمالية والفشل الذريع لنموذجها الليبرالي الجديد هل يستطيع أي توجه سياسي ليبرالي إلا أن يعيد إنتاج الحالة السابقة نفسها، ويعزز الفساد والقمع، مهما ضلل الناس بـ «ديمقراطيته» ومهما كان لبوسها دينياً أو علمانياً؟

بما أنّ المرحلة التاريخية الحالية تتميز بصعود قطب الشعوب، يبقى العامل الحاسم في تبني الجماهير لبرامج التغيير المجتمعي الشامل عبر الجهود الجماعية المنظمة مقابل نبذ الأنانية والفئوية والتقسيم، هو عامل التجربة العملية للجماهير ذاتها، فالحماس وروح التضحية متوفر لديها حالياً، ويبقى أن تقوم هذه الجماهير في إبداع صيغ وأطر تنظّم نفسها بوساطتها، من أجل نيل حقوقها والدفاع عن مصالحها، سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي والوطني العام، هذا يعني أن يرتفع نشاطها إلى مستوى العمل السياسي.

بالواقع السوري الملموس حالياً، توجد مهمات أساسية ملحّة وضرورية لتأمين استمرار حياة السوريين بالحد الأدنى، نستطيع أن نلخصها بكلمتين متلازمتين: «الحياة والخبز»، فقد أثبتت تجربة الأزمة أنّ أمن السوريين على حياتهم في ظل العنف الذي يقع عليهم وبينهم، لم يعد ممكناً تحقيقه واستتبابه بمعالجات أمنية بحتة، والعنف العشوائي لا يولّد سوى عنفٍ مضادّ مثله، والحاجة ملحة إلى أن ينظم السوريون أنفسهم في «لجان سلم أهلي» تضطلع بدور وطني جامع ونابذ لأية تفرقة أو اصطفافات وهمية، تتعاون فيما بينها ومع كافة الأطراف في المجتمع والدولة والنظام والمعارضة من أجل وقف نزيف الدم السوري، وبما أنّه ليس بالأمن وحده يحيا الإنسان، فإنّ لجاناً كهذه يكتمل دورها على نحو أفضل عندما تناضل جماعياً من أجل تأمين الحاجيات المعيشية الأساسية لأبناء الشعب كافةً، ولعب دور الرقيب الشعبي المباشر على أجهزة الدولة لإعادة دوره المفقود كراعٍ وخادم للشعب، وللتطبيق الحقيقي لمبدأ سيادة القانون وردع أي كان عن الفساد والإفساد وعن أي سلوكيات معادية ترسخ استمرار الخلاص الفردي المناقض للمصلحة العامّة وللوحدة الوطنية.