«ديمقراطية» الطوائف.. أقسى الدكتاتوريات
يكثُر الحديث اليوم عن اقتراب المجتمع السوري من الحل السياسي، سواء عبر وسائل الإعلام، أو في أحاديث الشأن السياسي السوري التي يتداولها العموم.
ويتزامن هذا الاقتراب مع التصريحات العديدة لدبلوماسيي بعض الدول الغربية، وممثلي مصالحها من قوى الفساد الكبير في سورية ، والتي تشي بدعوتهم إلى «ضرورة البحث عن طرق كفيلة بتحقيق تمثيل جميع الطوائف السورية في الحل السياسي». هذا ما يحتم علينا دراسة الهدف الحقيقي الكامن خلف هذه الدعوات، بالإضافة إلى الدعوات الأخرى، الأكثر صراحة، بالعمل على بناء اتفاق «طائف سوري».
سقوط الأداة.. والهدف الثابت:
كان أحد أبرز الأهداف الأساسية، غير المعلن عنها، من جرِّ البلاد نحو المعركة العسكرية هو إدخال مكونات المجتمع السوري في حربٍ دامية فيما بينها، هذه المكونات المتضررة، بطبيعة الأحوال، من نهب قوى الفساد الكبير في النظام والمعارضة لموارد الدولة السورية، حرب تعزز الموقع الطبقي لقوى الفساد من جهة، وتساعد أحد قطبيها «الموالي والمعارض» في حربه الرامية إلى الاستئثار بموارد النهب، وإلغاء المنافس الآخر له..
جاء التوازن الدولي الصفري (كسر الأحادية القطبية)، وما عكسه من توازن داخلي عسكري صفري أيضاً، ليضع حداً لآمال قطبي الفساد في انتصار أحدهما على الآخر، وليدلل على انتهاء مفاعيل «الحل» العسكري في سورية، مما يمهِّد الطريق أمام الحل السياسي البديل، وهذا ما يفسِّر توجه بعض القوى والشخصيات التي اتسمت مواقفها بالتشدد على طول خط الأزمة نحو الحل السياسي، خلافاً لما يتهيأ للبعض أنها اتجهت نحوه لأنها «عقلانية، وساعية لحقن دماء السوريين».
ويعدُّ ضرباً من ضروبِ السذاجة، الاعتقاد بأن حالة التوازن الدولي الجديد ستثني قوى الفساد، ومن ورائها أمريكا والغرب الساعي إلى تفكيك المجتمع السوري، عن العمل الدائم على تحقيق أهدافهم، حتى بعد بدء سقوط أداتهم الأمضى في سبيل تحقيقها، والمتمثلة بالعنف، فحتى الحلول السياسية يمكن لها أن تُستثمَر بما يخدم مصالح أعداء سورية، فكل ما يتطلبه الأمر بالنسبة لهم، هو إيجاد الطريقة التي على أساسها يُصاغ «الحل» السياسي بما يضمن بقاء مواقع القرار بمنأى عن متناول الأكثرية الشعبية.
ولعل الأداة الأكثر تلبيةً وتوافقاً مع الهدف هذا، تكمن في العمل على إرساء «الديمقراطية التوافقية» الكفيلة بإعادة مكونات ما قبل الدولة الوطنية إلى السطح، كالنموذج اللبناني القائم على أساس اختزال لبنان بتكتلاته الطائفية والمذهبية.. هذا بالضبط ما يؤسس لكسر الهوية الوطنية السورية، والابقاء على الصراعات ما بين مكونات الشعب السوري، مما يحول دون توحيدها وتضافر جهودها في وجه قوى الفساد.
جوهر القضية.. بين الأفقي والعمودي:
يبدو التساؤل حول أصل الانقسام، في المجتمع السوري، وفي جميع مجتمعات العالم، فضفاضاَ ومعقداً إذا ما كان النظر إلى التناقضات الثانوية (التمايزات والاختلافات الدينية والعرقية والقومية والثقافية...إلخ) هو المنطلَق المعرفي لإطلاق الحكم حول أصل هذا الانقسام. ولكن إذا ما أردنا البحث في جوهر الاختلاف ما بين البشر، نجده مُعللاً بالثنائية الحقيقية في العالم كله «ناهب- منهوب»، والتي على أساسها فقط، يُمكن فهم لماذا سارع الناهبون دائماً إلى تعميق التناقضات الثانوية وإظهارها بمظهر المحرك الأساسي لدى شعوب العالم..
على أساس التناقض الأساسي ما بين المُستغِل والمستغَل، تنقسم المجتمعات أفقياً، ما يجعل الأقلية الناهبة في بوتقةٍ واحدة تقبع في القسم الأعلى من خارطة المجتمع، ويشغل القسم الأدنى البوتقة التي توحِّد ما بين عناصر الأكثرية المنهوبة. في الواقع، أدركت قوى النهب على مرّ التاريخ، أن وجود الأكثرية في بوتقة تجمع ما بينها، دون أن تأخذ الاختلافات بينها حدَّها الأقصى، من شأنه أن يمهِّد الطريق، عاجلاً أم أجلاً، لتوحيد جهودها نتيجة ظهور الصراع الطبقي بشكله الواضح في المجتمع، مما يُنذر بتهديد الموقع الطبقي للبرجوازية، تحت ضغط القوى الشعبية الموحدة.
إنطلاقاً من هذا التهديد الناشئ عن ظهور الصراع الطبقي بشكله الحاد، عمدت البرجوازية دائماً على توريته (أي الصراع الطبقي) عبر تسعير نار الصراعات الثانوية الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية ... إلخ، ما يجعل الأكثرية متشرذمة داخل تناقضاتها مغيبةً بذلك التناقض الأساسي عن الأنظار.
في الحالة السورية، يسعى دعاة «الديمقراطية التوافقية»، سواء دول الغرب أم قواها في الداخل، إلى شل قدرة الأكثرية على فرض مطالبها في الحل السياسي، محاولين بذلك تعميق الانقسامات الوهمية في المجتمع السوري، عبر اختزال أطراف وأقطاب الحل السياسي هذا، بممثلين عن الطوائف السورية، محققين بذلك جملة من الأهداف التالية:
منع الاحتدام الطبقي ما بين قوى الفساد (الموالية والمعارضة) والشعب السوري المتضرر منها، والحؤول دون أن يمضي هذا الأخير إلى النهاية في إنجاز التغيير الحقيقي في سورية.
كونها الوكيل الحصري لمصالح الغرب في سورية، تدرك قوى الفساد، أن تفتيت المجتمع السوري على أساس طوائفه، سيساهم في إضعاف الدور الوظيفي لجهاز الدولة، وبالتالي تكون مساحة استثمارها ونهبها أكبر.
ابتلاع القوى الوطنية، العابرة للأديان والطوائف والقوميات، والتي تشكل حجر العثرة الأساسي في وجه مشاريع القوى الفاسدة في سورية.
تأمين استمرار قمع الحركة الشعبية السورية، ولكن هذه المرة بعيداً عن الهراوة والعصي، بل عبر «الديمقراطية التوافقية» ذاتها!
من هنا، واستناداً إلى ما سبق، نستخلص أن كل الدعوات إلى «توحيد» صفوف السوريين على أساس التمثيل الطائفي، ما هي سوى محاولات إلى الالتفاف على مطالب الشعب السوري المحقة، بحيث تستغل «ديمقراطية الطوائف» الشعب بطريقة لا يقوى على تحقيقها حتى أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم.