سيفٌ.. فليشهر
حازم بو سعد حازم بو سعد

سيفٌ.. فليشهر

(لم أعد أحتمل رائحة الدماء.. إنها تحاصرني حتى في أحلامي.. ربما من الأفضل لنا أن نغمد سيوفنا ونرسل الرسل).. لو أن آغمامنون وقادة الإغريق استمعوا لأدوسيوس حين قال هذه الكلمات، لربما بقيت طروادة ونجا الآلاف، ولكن كعادة تجار الحروب، لم تكن دماء الضحايا تعني لهم أكثر من وسيلة للوصول إلى العرش أو لحمايته من تجار الحروب الآخرين..

رغم كم الاختلافات الهائل بين ما يحدث في سورية اليوم وبين الأحداث المفترضة لملحمة هوميروس (الإلياذة)، فإن قاسماً مشتركاً يجمع ما بين الحكايتين.. إنها الدماء، الكثير منها.

سبعة أشهر منذ أن بدأت الحركة الشعبية الاحتجاجية في سورية، سبعة أشهر كانت حصيلتها إلى اليوم ما يزيد عن 3000 شهيد و12000 معتقل وملايين يسكنها الرعب.. سبعة أشهر مرت وحتى هذه اللحظة  ما زال هناك كثيرون يريدون ألا تعود السيوف إلى أغمادها، وأن يُذبَح الرسل.

بعض الهيئات المعارضة أخذت بإدعاء الوصاية على الحراك الشعبي، وذهبت بإدعائها إلى أن نصّبت نفسها الممثل الوحيد لهذا الحراك والناطق الرسمي باسم أحيائه وشهدائه وحتى ضحاياه.. هذه الهيئات التي لفظ الشارع رموزها في وقت سابق بعد أن أثبتت فشلها في توجيهه وحمايته، وكفاءتها في استغلاله وتوظيفه لأهدافها الخاصة وحتى خيانته.. هيئات تدعي تمثيل السوريين رغم أن أعضائها يحملون أكثر من جنسية أقلها شبهةً (السعودية).. هيئات أعضاؤها تلطخت أيديهم بدماء السوريين شعباً وجيشاً في زمنٍ مضى بحجة الحروب المقدسة.. هيئات أعضائها كانوا إلى وقت قريب يتمتعون بقوت السوريين وعرقهم دون أي شعورٍ بالذنب.. هيئات أعلنت من دول لم تكن يوما سوى جلاد للسوريين وغيرهم.. فإذاً هذه الهيئات تفتقر بشكل أساسي للتمثيل، وهي بذلك هيئات وهمية لا وجود لها على الأرض، ولا تملك أي تأثير فعلي على سير الحراك وتوجهه، وهي هيئات لها أجندتها الخاصة التي تختلف، لا بل تناقض مطالب الشعب السوري في الكرامة والمقاومة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. لكن الأخطر من ادعاء الأبوة غير الشرعية هو الإرشادات التي تقدمها هذه الهيئات معدومة البنية والمتعطشة للسلطة للحركة الشعبية، فمن شعاري «إسقاط النظام» و«لا للحوار» والشعارات اللامطلبية التي تصب في خانة التجييش الأعمى، وصولاً إلى دعوات تسليح الحراك وطرح مفهوم الحماية الدولية والتدخل الخارجي... هذه الإرشادات أقل آثارها ضرراً هو خداع الحركة الشعبية وتحميلها فوق طاقتها بهدف تشويهها وإجهاضها، وأكثرها خطورة هو تدمير النسيج السوري الاجتماعي بخلق تناقضات طائفية وعرقية تحرض على الاقتتال الأهلي لإيجاد البيئة الحاضنة لأي عمل عدواني خارجي يستهدف سورية أرضاً وشعباً، وليس نظاماً، ويتيح لممثلي الهيئات سالفة الذكر أن تحكمها. إن هذه الهيئات، وفي مقدمتها ما يسمى (المجلس الوطني)، وعبر منابرها الإعلامية تتحدث بصيغة الآمر الناهي، وتضع نفسها في مواجهة النظام متناسية هي وغريمها (المفترض) أهم أطراف النزاع ألا وهو الحركة الشعبية نفسها.. تلك الحركة التي قدسها أحد الغريمين الواضحين وخونها الآخر، وكلاهما لا يقل خيانةً للحركة الشعبية عن غريمه، فالذي رفض الحركة الشعبية جملة وتفصيلاً وتجاهل عن عمد أو غير عمد، الظروف الموضوعية التي أنتجتها، وقام بمحاربتها بكل الوسائل بهدف حماية كينونته الحالية ومكتسباته، هو عدو واضح وصريح للحركة الشعبية، كذلك فإن الذي يمجد الحركة الشعبية ويختصر مطالبها بمفردة فضفاضة (كالحرية) مضفياً عليها الكثير من القداسة والنبل، فإنه يعزز في وعيها المتشكل حديثاً نزعات الألوهية التي يستحيل أن ترتكب الأخطاء والقادرة على كل شيء، رغم أن هذا الطرف  نفسه هو من استضعف الحركة الشعبية وبث النداءات في الأصقاع لنجدتها وإنقاذها.. فإذاً، الحركة الشعبية مستهدفة من الطرفين، ومهمشة بشكل ممنهج من كليهما رغم أنها ساحة صراعهما وهدفه وذخيرته..

دعوات الحوار أو التفاوض من الطرفين استثنت الحركة الشعبية وتجاهلتها تماماً، كيف لا وكلاهما مهدد من هذه الحركة التي من أهم دوافعها تغيير البنية السياسية-الاقتصادية القائمة داخل النظام وخارجه، وهذا التجاهل يهدف إلى أن تكون مطالب الحركة الشعبية بعيدة عن كل الحلول المستقبلية، بمعنى إعادة المحاصصة بين الكبار دون أخذ مطالب الشعب السوري بعين الاعتبار وإيجاد مخرج للأزمة دون تحقيق أي تغيير فعلي في عملية توزيع الثروة بين الناهبين والمنهوبين..

إن أي حوار في المستقبل يجب أن يضم ممثلين عن الحركة الشعبية (ممثلين حقيقيين)  أي أولئك الأشخاص الذين قادوا المظاهرات وشاركوا فيها مدفوعين بحبهم لوطنهم وإدراكهم لمدى معاناة شعبهم، وتعرضوا للعنف من جانب أجهزة الأمن ومليشيات الفساد والعصابات المسلحة في سبيل التغيير إلى الأفضل وتطهير سورية من الفساد الكبير.. وهنا من المفروض على كل من يؤمن بالحركة الشعبية أن يسعى جاهداً لإيجاد هذه القيادات والعمل على تطويرها فكرياً وتنظيمياً وتهيئتها للدخول في الحوار، ولاحقاً للدخول بالعملية السياسية واتخاذ دورها في صنع القرار السياسي.. إن المزايدين الذين لا يكفون عن تمجيد الحركة الشعبية ويكتفون بمدحها دون الإشارة إلى أخطائها ونواقصها هم أكثر خطراً عليها من غيرهم، فرصاصاتهم في الظهر.

من الضروري الآن العمل على حماية الحركة الشعبية وإعادة توجيهها بشكل يخدمها ويساعدها في تحقيق مصالحها، حتى لو أنه عارض أهواءها ظاهرياً.. ومن الضروري أيضاً إلغاء الثنائية الوهمية (نظام- معارضة) التي تستثني الشعب من حساباتها- في الوعي الجمعي للمجتمع السوري.. لأننا بتحصيننا للحركة الشعبية فإننا نحصن وطننا سورية.

إننا كلما أسرعنا بالحوار فإننا ننقل الصراع إلى مستوى حضاري، ونسرع في وقف نزيف الدماء وإعادة سورية إلى مكانها الصحيح بين الأمم، ولكن أي حوار دون الحركة الشعبية فهو حوار مرفوض جملة وتفصيلاً لأنه -وإذا صح التوصيف- خال من التأثير و التمثيل.

علينا أن نحاول تحقيق ذلك بكل الجهود والطاقات، لأننا كسوريين لم نعد نحتمل رائحة الدماء.. والسيف الذي لا بد من أن يشهر هو سيف الشعب السوري في وجه الفاسدين الكبار داخل وخارج جهاز الدولة أصحاب المصلحة الحقيقية في تأجيج الاقتتال الداخلي، وفي وجه دعاة التدخل الخارجي من الهيئات والشخصيات «المعارضة».