النقد.. تغيير النظام أم ضمان استمراره؟
فتحت وسائل الاعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، الباب واسعاً أمام «التحليلات» السياسية، بما تحتويه هذه الأخيرة من أخذ ورد وسجالات لا تكاد تنتهي مفاعيلها حتى تعود قوى التشدد المستفيدة من حجم الشحن الناتج عنها لتغذي نيرانها من جديد
إلا أن اللافت في الأمر هو استشراس «المحنّكون» خطابياً لتصوير مجموع المهاترات الإعلامية التي يتبادلونها مع «محنكي» الطرف الآخر على أنها نقدٌ علمي ينظر للمنقود بعين الحكمة والصواب معاً، جاعلين من «الأكاديمية» غلافاً مجملاً لتبعيتهم. وهذا ما سيقودنا لإعادة تسليط الضوء على ما يحتويه مفهوم النقد من معنى معرفي دقيق، وإدراك أيّ دور يؤديه النقد في حقل الصراع الإيديولوجي بين القوى الثورية التغييرية وتلك الساعية للإبقاء على منظومة السلب والنهب بأي ثمن.
النقد بين السائد والسليم
تنتشر التفسيرات الرامية إلى تسطيح الوعي الجمعي حول مفهوم النقد بسرعة انتشار النار في الهشيم، ويكاد يكون المثال الأبرز على هذا، هو الاعتقاد السائد بأن النقد لا يعني سوى عملية إحصاء وسرد مكرر ورتيب للسلبيات التي تحتويها بنية الشيء المنقود، وهذا ما تجزم في بطلانه مجموع المساهمات النقدية لكبار العلماء أنفسهم، حيث أن النقد السليم هو ذاك الذي يقوم على دراسة معمقة تهدف إلى معرفة أماكن القوة والضعف، السلبية والإيجابية في المنقود (أياً كان، نصاً أو فناً أو نظرية أو حتى برنامجاً سياسياً ...إلخ). ولا يكتفِ النقد السليم بذلك، إذ يذهب ليبحث ويبتدع حلولاً منطقية لمكامن السلبيات في المنقود.
في الحقيقة، إن هذا الطابع الشمولي للنقد من حيث دراسة المنقود بكافة وجوهه ومعالجته ليس عبثياً، بل إنه تعبير واضح عن خروج النقد السليم من نطاق العشوائية والعبثية، واعتماده على أساس علمي يرمي إلى جعله ممنهجاً وهادفاً في آن معاً، ليعاكس بذلك نزعة «النقد» الارتجالي والفوضوي، التي لا تلتزم بضوابط علمية تقومها، فتبقى أسيرة الاحتمالات ما بين الصواب حيناً والخطأ أحياناً، لتزيد بذلك من مقومات الشحن الهدام في المجتمع، لا سيما إذا كان الأخير يعاني مستوى عال من الاحتقان كما هو الحال اليوم في الأزمة السورية..
النقد على السكّة التغييرية
في الأزمة السورية، ينطلق البعض في نقده من رغبة جامحة لديه للمحافظة على «نظافة» موقفه السياسي، حيث يأخذه هوس «الحفاظ على مسافة واحدة من الجميع»، بما يحمله هذا الهوس من انتهازية فاضحة، إلى تمييع نقده هذا، فتراه يبدّل في نسبة الايجابيات والسلبيات في المنقود تبعاً لتبدلات موقع الأخير في معادلة الصراع الجاري على الأرض. وبعض آخر ينطلق في نقده من تفسيره الخاطئ لمفهوم الثوابت المبدئية، خالصاً إلى نتائج يعممها ويلبسها ثوب البداهة، ساعياً في ذلك ليجعلك «أسيراً لمنطلقات فكره». ويفصل هؤلاء فصلاً تعسفياً ما بين سلوكهم وتأثيره الفعلي السلبي في الصراع، رافضين الاعتراف بتأثير «نقدهم» المساهم في كثير من الأحيان بمساعدة من يعادون، كأن ترفض المشاركة في جهاز الدولة تحت حجة سيطرة الفساد الكبير عليه، النتيجة هنا واحدة: ترك جهاز الدولة عرضة لنهب الفساد الكبير، وكم يُطرب الأخير لسماع من يؤمّن له الغطاء الأيديولوجي ليؤبد سطوته على الدولة..
إن النقد بوصفه نشاط نظري هو بالطبع إحدى أدوات الصراع السياسي، حيث لا وجود لحيادي يدّعي عدم الانحياز، حتى ولو كان صادقاُ في رغبته هذه. فالصراع القائم في سورية اليوم بين من يستثمر أدواته جميعاً، بما فيها النشاط النظري الإيديولوجي، من أجل تحقيق التغيير الجذري الشامل في بنية النظام السوري، وبين من يستثمرها ليقاوم حتى الرمق الأخير مشروع التغيير الحقيقي، وهؤلاء موجودون في ضفتي الثنائية الوهمية «موال- معارض»، هذا الصراع ينفي أية إمكانية لأن يكون المرء حيادياً، إذ أن الفعل أياً كان نظرياً نقدياً أو سياسياً ...إلخ، له دوره في زعزعة بنيان إحدى النقيضين (الثوري التغييري- الرجعي) وتقوية عود الآخر..
إلى هنا نستخلص أن ما يحتاجه المجتمع السوري في الواقع هو الابتعاد عن النزعة الفوضوية الارتجالية غير القادرة على حساب تأثيرها الفعلي في الأزمة، والإدراك الحقيقي بأن النقد لا يرقى ليتسم بالطابع النضالي التغييري إلا إذا كانت المنفعة العامة هي المحرك الأساسي له، لا الخوض في مزيدٍ من المناكفات الهدامة.