«شو عكس الأمن؟»..
يُشرّعُ بيت «خالتنا» أبوابه ويستقبلنا لأسباب متعددة، وأحياناً من باب الضيافة فقط!. وحين تدعوك «خالتك» لشرب «فنجان القهوة» الشهير، تسوّد الدنيا وترتجف القلوب لأن «الداخل مفقود، والخارج مولود»، ولأن «الشباب الطيبة» وحدهم القادرون على خلق منطقة على الكرة الأرضية تدعى «ما وراء الشمس»..
لعبت الأجهزة الأمنية بأشكالها المختلفة عبر تاريخ الدول دوراً مكروهاً شعبياً، هو في الجوهر دور الرقيب والحسيب الذي يسلطه جهاز الدولة على الناس، بحيث يتوجب عليه أن يحفظ «مصالح الدولة». ولما كان جهاز الدولة منذ نشوئه الأول جهازاً يتحكم به «الأغيار» على حد تعبير هادي العلوي، أي أرباب السلطة والمال، فإن «عيونهم»، أي أجهزتهم الأمنية، تولت دور الدفاع عن سلطتهم وعن مالهم، وعن ظلمهم واستبدادهم، وذلك خلافاً، على سبيل المثال، للجيوش التي كانت تضحي ذوداً عن الحدود وضد الأعداء الخارجيين..
بكلام آخر، فإن الأجهزة الأمنية، وتحت مسمى حمايتها لأمن الدول، لا تقوم بدورها الأساسي في حماية شعوب تلك الدول، بل تعاديها، من خلال بقائها أداة بطش وقمع لا أكثر بيد الطبقة السائدة بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، أي «القطط السمان»، أو «الحيتان»!!
يوجد في حياتنا ما يكفي من الأمثلة لتثبيت أن الواقع العام للأجهزة الأمنية في سورية ليس بعيداً كثيراً عن التوصيف السابق، وإن وجد أشخاص نظيفو اليد ويضعون المواطن في حسبانهم. حسبك في تاريخ سورية الحديث عموماً حتى ما قبل الأزمة الحالية أن ترفع صوتك، وربما أن تهمس في «مكان خاطئ» ضد فاسد ما، ممن تتزاوج عندهم السلطة بالمال، حتى تتعرض للمضايقات المختلفة أو حتى أن تشرب عدداً من فناجين القهوة فوق «بساط الريح» أو تحته. ولعل الحجم المهول من الفساد الذي يرعاه بعض من في الأجهزة ويدافع عنه، هو ما يفسر طريقة التعاطي مع الأزمة من موقع التشدد بشكل فاقع، ذلك أن التغيير العميق المستحق في البلاد سيطالهم في نهاية المطاف، ولا سبيل لمواجهة هذا المصير إلا برفع مستوى التشدد، أي الإعاقة بالمحصلة. وربما لن ينتظر السوريون وقتاً طويلاً حتى يتبين لهم أن جزءاً أساسياً من الفاسدين، المتمظهرين بأشكال التشدد والمزاودة، قد تواطئ مع فاسدي الطرف المقابل على سرقة البيوت والمعامل والثروات الباطنية، وصولاً إلى رشاوى «بيع وتأجير» خطوط النقل والإمداد لبعض المسلحين، وفوق ذلك كله المحاولة المستمرة لاستغلال ظاهرة غياب الأمن التي فرضت على الناس تشكيل «لجانهم الشعبية» ليقوموا– أي الفاسدين- بتشكيل لجانهم «الشعبية» الخاصة ولحسابهم، ليطلقوا يدها في النهب والإجرام والتعدي على كرامات الناس..
إن التأخر الطويل في حل، بل ومفاقمة، عددٍ من القضايا المعلقة مثل قضية المعتقلين وقضية المصالحة الوطنية، وحتى التأخر في ضرب بعض مفاصل الفساد الإدارية، كل هذا يتحمله الفاسدون في أجهزة الدولة، بما فيها الأمنية منها، وبدورٍ لا تقل خطورته عن الدور الذي تلعبه «النصرة» وأشباهها في التوتير والتصعيد المستمرين.. ويعود ذلك إلى تداخل عاملين:
استمرار ذهنية المادة الثامنة القديمة التي يتمسك بها الفاسدون الكبار في الدولة والمجتمع أكثر بكثير من حزب البعث نفسه، بل ويقدسونها في الوقت الذي بدأ فيه كثير من البعثيين بإعداد أنفسهم للتفاعل البناء مع الواقع المستجد..
المصالح والمكاسب التي يحوزها الجزء الفاسد من الأجهزة الأمنية، والتي ينذر الحل السياسي والخروج من الأزمة بخسارتهم لها، ولذلك يعملون جهدهم لإعاقة أي تقدم..
إن ضبط الأجهزة الأمنية بحيث تكون وظيفتها المستعجلة، على طريق إعادة توصيف وتوظيف دورها الوطني الشامل، هي القيام بكل ما من شأنه تخديم الحل السياسي، هي ضرورة وطنية وضرورة أمنية، بآن معاً!! وإلا سيبقى التساؤل التهكمي من زياد الرحباني مفتوحاً، صحيحاً ومؤلماً: «شو عكس الأمن؟؟ ..هو الأمن»..!!