تحديات المعارضة الوطنية داخل الحكومة الجديدة
تأتي التطورات الأخيرة في الأزمة السورية داخلياً، وفي ظل التوازن الدولي الصفري كحالة موضوعية تواجه سورية خارجياً، لتبرز موقع الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير كقوة معارضة وطنية، عبر نشاطها ونضالها بما تعبر عنه من مصالح الجماهير وعقلانية الأمزجة الشعبية الطامحة إلى حل سلمي للأزمة على النقيض من الجنون الذي يسم المتشددين وسلوكياتهم لدى جميع الأطراف.
نستطيع أن نتلمس لدى جزء من الشعب السوري جرعة لا بأس بها من التفاؤل بمشاركة الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في الحكومة الجديدة، ولنكون موضوعيين، فإنّ جزءاً هاماً من الشعب أيضاً ما يزال فاقداً الثقة بكلّ الدولة ومؤسساتها، وهذا مفهوم ولا نستطيع لومه كثيراً على ذلك، المُلام هو أجهزة الدولة نفسها بكل ما ارتكبته من أخطاء فادحة بحق السوريين، سواء بقصر نظر البعض داخلها، أو بتواطؤ وفساد البعض الآخر، أو بصمت واستكانة آخرين..
لكنّ شكوك كثير من الناس ومقاطعتهم للعمل السياسي وأدواته، كعمليات الانتخاب مثلاً، هو شيء، ومقاطعة العمل السياسي من جانب بعض الجهات التي تصنف نفسها «معارضة سياسية» شيء آخر، خاصة عندما نراها تهرول لمؤتمرات مشبوهة تعرّض فيها نفسها للإقصاء، وترتضي أن تكون مجرّد حواشي للواجهات السياسية العميلة لأعداء شعبها والمشاركة بتبرير وتغطية التدخل الخارجي والعنف المضاد الذي يوقع ضحاياه من الشعب السوري نفسه.
مهما يكن، لا يمكن تجاهل دلالات مشاركة جزء من المعارضة الوطنية السورية في السلطة التنفيذية عبر الحكومة، بعد مشاركتها في السلطة التشريعية عبر مجلس الشعب. فهذا يدلّ بشكل عام وقبل كل شيء على أنّ هذه المعارضة لها تأثيرها ووزنها وشعبيتها على الأرض وإنْ لم ينعكس بحجمه الكامل بعد، ما جعلها قادرة على انتزاع الاعتراف بها من جانب الخصوم السياسيين، فتوليها لحقائب اقتصادية، دليل عميق على انتصار معرفي قبل كلّ شيء، ودليل على انتزاع الاعتراف بفشل النهج الاقتصادي النيوليبرالي الذي يطبق الرأسمالية المتوحشة بأبشع صورها وبقمة تبعيتها للمركز الإمبريالي-الصهيوني اقتصادياً كبداية لإلحاق البلاد به سياسياً. ولذلك فإنّ هذا التحوّل يفتح الطريق لتجريب نموذج اقتصادي جديد بأهداف استراتيجية جديدة تضع الأولوية لاقتصاد الإنتاج والعدالة الاجتماعية ودعم المنتجين والفقراء على حساب الأثرياء وشرائح البرجوازية الكبرى الطفيليلة، وانتهاج تأمين موارد التنمية عبر البدء بضرب الفساد الكبير، الذي طالما كان بوابة العبور الرئيسية لزعزعة الاستقلال الوطني للبلاد.
أما موقع الجبهة الشعبية في قيادة وتنسيق الجهود وزارياً فيما يتعلق بشؤون المصالحة الوطنية فهو أيضاً دليل على أنّ البرنامج الذي تطرحه للخروج الآمن من الأزمة يثبت يوماً بعد آخر أنّه السبيل الوحيد الصحيح موضوعياً للحلّ، وأنّه قادر على تحقيق إجماع وتوافق أوسع من الجبهة بكثير، ولا بدّ أن يتبنّاه عملياً جميع الوطنيين الشرفاء أينما كانوا.
ويبقى المستقبل القريب مفتوحاً للإجابة عن التساؤلات حول تحديات التغيير التي تواجه الوزارة الجديدة، وبالتحديد التغيير الاقتصادي، وجهود المصالحة الوطنية. لكن ما يجب تذكّره هو أنّ وجهة نظر الجبهة الشعبية في التغيير تختلف عن نظرة القوى السياسية التقليدية بشيء جوهري وهو قوى التغيير وأدواته، إذ لا يمكن تحقيق أيّ تغيير جذري دون مشاركة ونضال أصحاب العلاقة والمصلحة أنفسهم، أي جماهير الشعب السوري، هذا النضال الذي نفهمه على أنّه متعدد المستويات، يبدأ بالمطلبي، ومن الضروري جداً بلورته ورفعه إلى مستوى النضال الشعبي السياسي، لأنّ ملفاً مثل الفساد الكبير مثلاً، هو معركة سياسية بالدرجة الأولى.
فهل ستستطيع الوزارة الجديدة أن تكون فعلاً حكومة مصالحة وطنية تحقق إنجازات ملموسة في مجالي مكافحة الفساد الكبير، والمصالحة الوطنية، وتمهيد الطريق إلى حكومة وحدة وطنية حقيقية؟
يمكن القول إنّ مدى النجاح أو الفشل في إنجاز هذه المهمات، لا يتحدد فقط بمقدار الجهود الذاتية التي تبذلها الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير كقوة معارضة وطنية، بل سيتأثر الإنجاز أيضاً بعدد من العوامل الموضوعية: فما هو مدى التعاون بين جميع وزارات ومؤسسات الدولة من أجل تحقيق البرنامج المنشود؟ كم ستبلغ شدّة مقاومة وعرقلة القوى الفاسدة والمشبوهة والمستفيدة من تعقيد الأزمة واستمرار سفك الدماء، والموجودة داخل المجتمع، وداخل هذه المؤسسات نفسها؟ وبأي اتجاه سينزاح توازن القوى دولياً في الموقف من الأزمة السورية وطرق حلّها؟ تساؤلات لن يتأخر المستقبل القريب في الإجابة عنها على أرض الواقع.