تغيير جذري للنظام أم انتقال تلقائي للسلطة؟
تبدو مطالبة أي نظام بتسليم السلطة فوراً إلى معارضته، تبدو للوهلة الأولى كأشد الإجراءات الممكنة حزماً، لتبدأ بعدها عملية القصاص من المجرم وسط تصفيق الجميع، وبقاء مسرح الجريمة قائما بكل إحداثياته لتستمر الجريمة ولكن بمجرم جديد أشد ذكاءً وخفية من سابقه، لن تراه تلك العدالة العرجاء..
توالت الثورات المضادة والملونة بكل ألوان الغرب في ربع القرن الأخير مستفيدة من عيوب الأنظمة السالفة وتثاقلها عن إصلاح ذاتها، في بلدان الإتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية وشمال إفريقيا وفي منطقتنا، بقيادة أبطال الديمقراطية الغربية ورموز فساد الأنظمة البائدة، وخلفت آثاراً مدمرة على شعوبها بعد مضي القليل من السنين فقط، ليظهر الدور الوظيفي لتلك الأنظمة في الإبقاء على التوتر السياسي والاقتصادي- الاجتماعي كخطوة باتجاه تصفية الوحدة الحقيقية لكل بلد من البلدان التي جابها شبح الثورات الملونة، فكان الغرب هو الرابح الوحيد في هذه المعادلة لأن الأنظمة الجديدة كانت تكسبه النقاط بالمجان كالاستيلاء المباشر على الثروات والأسواق وتهديد الخصوم وإعادة رسم الخرائط...الخ.. لكن أفضل ما قدمته الثورات الملونة أنها ومن خلال تكرارها في العديد من البلدان وتكرار آليات وقوعها وتسلسل مراحلها، أن خلقت علماً جديداً هو «علم الثورة المضادة» وهو علم قد أصبح بمتناول شعوب بأكملها.. شعوب عاشت مذلة الكفر في التاريخ والخذلان في الحاضر..
أوجب علينا «علم الثورة المضادة» أن ندقق في كل العبارات الجاهزة لما يسمى بالمجتمع الدولي والصيغ المغلفة بقداسة المظهر الحقوقي والقانوني، فبعدما أصبح الغرب هو كل المجتمع الدولي في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، صارت نهاية أي نظام من أنظمة العالم الثالث تبدأ بمطالبته بتسليم السلطة إلى معارضة جاهزة مركونة في أحد جيوبه تمارس العمل الحقوقي في أوقات الفراغ ومطلوب منها أن تمارس السلطة حين تحين اللحظة المناسبة.. ولكن السؤال الذي لا يشغل بال الكثيرين في البداية: أليست السلطة التي ستسلم للمعارضة هي ذاتها التي مارسها النظام؟ إذا ما الذي اختلف؟ اختلفت الوجوه والماكياجات.. لم يتغير القوم لأنهم لم يغيروا ما في أنفسهم..
هل السلطة برنامج أم فعل «ميكانيكي»؟
مع ظهور حالة الحراك الشعبي العفوي في تونس ورفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي عكس بالجوهر الاستياء الشعبي الفطري من منظومة كاملة سياسية واقتصادية- اجتماعية ووطنية محددة، جرى العمل على إفراغ هذا الشعار من مضمونه وشخصنة النظام بأكمله بشخص الرئيس ليكون شماعة التي ستحمل أخطاء المنظومة برمتها، وعبر هذه العملية تحديداً جرت تبرئة المنظومة في محاولة للحفاظ عليها، وهذا جرى فعلا وفق ما تشير بعض المصادر بأن النصيحة الأمريكية لزين العابدين بن علي بضرورة تنحيه كي يتسنى الحفاظ على النظام.. واستمر التسويق بأن نجاح الثورة هو يوم تنحي الرئيس في مصر، وأن الحراك ما بعد هذا اليوم هو لحماية الثورة من أعوان الرئيس المخلوع وعائلته.. وليس من المنطقي إطلاقا أن يكون شخص أو عائلة هم كل النظام السياسي والمصدر الوحيد لمعاناة شعب بعشرات الملايين، وهذا النوع من المحاكمات العامية السطحية هو أخطر ما واجه الحراك الشعبي العربي منذ بداياته وحتى الآن، وإليه تستند فكرة تسليم السلطة ثم «الرحيل»، وتكمن الخطورة فيه بإمكانية إخفاء البرنامج الفعلي، السياسي والاقتصادي- الاجتماعي والوطني، للقوى المقدمة كبديل والذي هو برنامج النظام ذاته، وتقدم السلطة كعقد مقدس، وليس كبرنامج، وقد خانه الرئيس وحاشيته و«فاجأ» شعبه بذلك فوجب عليه الرحيل..
يذهب البعض في دفاعهم عن مطلب نقل السلطة على أنها مرحلة انتقالية ضرورية لبناء نظام جديد لاحق، لأنه لا يمكن لنظام يسعى للحفاظ على مواقعه في السلطة أن يمهد لبناء نظام جديد، ويبدو الكلام منطقيا هنا ولكن تنتصب أسئلة أساسية وهي: ألا تسعى المعارضات التي توكل إليها مهمة إدارة الفترة الانتقالية إلى تثبيت أقدامها في السلطة المقبلة؟ ولماذا الإصرار على تغييب البرامج وإخفائها وخلق أجواء مزيفة من الحياد المزعوم؟ ومن أدار العملية الانتقالية في تونس ومصر واليمن أليسوا رموز النظام السابق وحقوقييه وموظفيه تحت ستار المهنية والحياد؟
ماذا يعني نقل السلطة في سورية؟
كشف الطابع المركب للأزمة السورية وطول فترة الاستعصاء فيها عن جوهر الكثير من الاحتمالات التي رافقتها، ومنها مسألة نقل السلطة إلى المعارضة، فالمعارضة في سورية ليست كياناً موحداً ولن تكون كذلك كما هو واضح، وذلك على الرغم من السعي الحثيث لتوحيدها، بغية جعل مسألة نقل السلطة هدفاً واقعياً، وحقيقة الأمر أن الذي نسف وهم توحيد المعارضة ونقل السلطة على الطريقة الليبية هي المعارضة الوطنية التي تمايزت عن تلك غير الوطنية، وذلك في ظل توازن دولي جديد أحبطت فيه احتمالات التدخل الخارجي، وبالتالي استطاعت البلاد التخلص من الخطر الأكبر، وبقيت عملية الصراع السلمي مع النظام مستمرة بهدف الوصول إلى التغيير الجذري والشامل لبنية النظام الحالي وللوصول إلى نظام جديد. بهذا كانت المعارضة الوطنية بمواجهة فضاء سياسي قديم بأكمله هو فضاء النظام والمعارضة اللا وطنية، وكان سلاحها الأمضى في هذه المواجهة هو برنامجها السياسي والاقتصادي- الاجتماعي والوطني، لأن التغيير الحقيقي لن يتم دون برنامج، أما خرافة الفترة الانتقالية التي لطالما استخدمت للإبقاء على المنظومة وتغيير رموزها فقط، فكان لها دور آخر في خصوصية الوضع السوري، يتمثل في تعطيل وعرقلة الحل السياسي والحوار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وخصوصاً أن الظروف المحيطة بالنظام ليست كافية على إجباره على تسليم السلطة..
وفي ظل ذهاب قوى المعارضة اللا وطنية صوب التسلح والتلويح بالحرب الأهلية، وانكشاف أدائها الذي يتقاطع مع أداء النظام بدرجات عالية، يصبح الحديث عن نقل السلطة مطلباً يمينياً من حيث الجوهر، لأنه في أحسن الأحوال يعني الانتقال من تحت الدلف إلى تحت المزراب..
لذا فقد أصبح حل الأزمة في سورية رهناً بالبدء بعملية تغيير جذري شامل وصولا إلى نظام جديد يصنعه الشعب، على أساس برنامج حقيقي وليس على أساس الشخوص، ومن خلال تصفية منظومة الفساد في النظام والمعارضة، فبهذا وليس بأي شيء آخر تصبح السلطة للشعب..