افتتاحية قاسيون 560: التوازن الجديد.. من جنيف إلى القاهرة
ثبّت الفيتو الروسي- الصيني المزدوج المكرر ميزان القوى الدولي بحيث أصبحت محصلته صفراً بين الجانب الأمريكي- الغربي وحلفائه من جهة، والجانب الروسي- الصيني وحلفائه من الجهة الأخرى، وقلنا في حينه إن التوازن الجديد منع التدخل الخارجي المباشر ونقل أمريكا إلى تنفيذ الخطة (ب) للتدخل غير المباشر عبر التمويل والدعم بأشكاله المختلفة بغرض رفع منسوب الدم إلى الحدود الكافية لإحداث انقسامات عمودية حادة في بنية المجتمع السوري تأخذه نحو حرب أهلية تحقق بالحد الأدنى إنهاءً للدور الوظيفي لسورية في المنطقة، وبالحد الأعلى تزيلها من الوجود كدولة موحدة أرضاً وشعباً..
جاء لقاء بوتين- أوباما وتلاه اجتماع جنيف ليشير إلى استمرار تغير ميزان القوى الدولي لمصلحة الطرف الروسي- الصيني، وتسليم أمريكا على المستوى الدبلوماسي بأن الحل في سورية سياسي ويعتمد على الحوار هو تنازل عن المواقف السابقة تحت ضغط الميزان الجديد، ويمكن القول إنه إذا كان التوازن السابق قد منع التدخل الخارجي المباشر فإن التوازن الجديد يعمل على تطويق التدخل غير المباشر أكثر فأكثر، وبما أن أمريكا لن تتخلى عن أهدافها الإستراتيجية، وبما أنها تحررت من عقدة الإنكار على عكس أجزاء من المعارضة والنظام السوريين، فقد أبقت بعض الأوراق في يدها للتعاطي مع الواقع الجديد، من هذه الأوراق مثلاً السعودية التي لم تحضر الاجتماع لتبقى طليقة اليد بعيداً عن أي التزامات وتعهدات بخصوص الحل السياسي والحوار، ويضاف إليها المهرجان الكلامي لهيلاري الذي سعت من خلاله إلى الالتفاف على نتائج المؤتمر وإجهاضه، ولكن هذا لا ينفي أن أمريكا كانت مضطرة لحضور المؤتمر..
أتى مؤتمر القاهرة في السياق نفسه ليلملم الموقف الأمريكي المتراجع، فجاء ليبرر استمرار التدخل الخارجي غير المباشر عبر تبرير التسلح، ويعمل بالتالي على استمرار الحل الأمني وتبريره وتثبيته، وبالنتيجة يديم الاشتباك ويعمل على رفع منسوب الدم لتحقيق الهدف القديم نفسه. إلى جانب كون الوثيقة الصادرة عن المؤتمر لا تعدو كونها تكراراً لإعلان دمشق ولـ«عهد وميثاق» الإخوان المسلمين الذي أصدروه في شهر آذار الماضي، فقد حاول المؤتمر من جديد تكريس موضوعة تداول السلطة تحت غطاء إسقاط النظام بمضمون هو في الحقيقة إبقاء النظام وتكريسه من خلال استمرار نهجه الاقتصادي، بل وأخذه نحو الأسوأ بزيادة الارتباط الاقتصادي والسياسي بالغرب وبمؤسساته، عدا عن التطمينات الكثيرة حول دور سورية المستقبلي من الصراع العربي- الإسرائيلي.. الأهم هو أن فشل مؤتمر القاهرة لم يكن مصادفة ولكن له أسبابه العميقة التي تتلخص في جانبين أساسيين:
أولاً: أثبت المؤتمر أنه لا يكفي الاتفاق على موضوعة إسقاط النظام لتوحيد المعارضة، وأن التجربة السيئة الصيت لتوحد المعارضة العراقية تحت اللواء الأمريكي لإسقاط صدام غير قابلة للتكرار في سورية، لاختلاف الظرف الدولي من جهة ولوجود أطراف رافضة لهذا التدخل حتى داخل مؤتمر القاهرة من جهة أخرى، ولعل السلوك السيئ لبعض الأطراف ضمن المؤتمر يعكس حالة التخبط وغياب البرنامج، ويضع القوى الوطنية القليلة التي حضرت المؤتمر أمام استحقاق مراجعة مواقفها بجدية والذهاب نحو انعطاف حاسم في سلوكها السياسي وتحالفاتها..
ثانياً: إن إفشال المؤتمر جاء بإيعاز أمريكي للقوى التابعة لها ضمن المؤتمر، ذلك أن نجاح المؤتمر يعني جهوزية الطرف «المعارض» المحاور، الأمر الذي لا يتسق مع نتائج جنيف بالنسبة لأمريكا، فالحوار ضمن شروط جنيف هو مخرج حقيقي من الأزمة السورية يخرج أمريكا من المعادلة وفي أحسن الأحوال فهو يقلل حصصها كثيراً، كما أن الحوار ضمن الواقع المعطى يكسر الاشتباك ويمنع رفع منسوب الدم ويقوض نهائياً التدخل غير المباشر الأمريكي- النفطي العربي..
إن الخروج الآمن من الأزمة كان ولا يزال سورياً، والظرف الدولي اليوم يفتح الباب واسعاً أمام إطلاق حلٍ سياسيٍ عنوانه الأول: المصالحة الوطنية بجميع بنودها من إطلاق سراح المعتقلين إلى التعويض الفوري على المتضررين ومعالجة قضية المهجرين وصولاً إلى محاسبة المسؤولين عن إراقة الدم السوري، بالتلازم مع فك الاختناقات المعيشية التي أنتجتها الأزمة، تأسيساً لتغيير وطني ديمقراطي جذري وشامل.