سورية في قلب معادلة الصراع الدولي الجديد
رافق الحدث السوري انعطاف نوعي في ميزان القوى الدولي، تمثل هذا الانعطاف بتوصل روسيا والصين إلى ترجمة الفيتو المزدوج لهما على الأرض بالمنع الفعلي للتدخل العسكري المباشر في سورية. هذا «الانقلاب» في المشهد الدولي الذي تعثر في محطات مشابهة سابقة، يوغسلافيا و أفغانستان والعراق وليبيا، شوّش على كل من أسقط الأزمة الاقتصادية للرأسمالية من حساباته وتحليلاته، بقصد أو بغير قصد، بدءاً من أنصار النظام السوري الذين تيقّنوا من حتمية اندحار المؤامرة الكونية ضد سورية «مركز الكون»، وصولاً إلى جزع سوزان رايس وأمير قطر بسبب «الأزمة الاخلاقية» الجديدة في مجلس الأمن نتيجة عجزه عن تشريع الباب لقصف سورية..
أعلن الروس قبل أكثر من أسبوع بأن الطريقة التي ستحل فيها الأزمة في سورية ستحدد شكل النظام الدولي اللاحق، وهذا الإعلان الذي يتميز بدقته الشديدة شأنه شأن تصريحات سابقة كثيرة للدبلوماسية الروسية يحمل إشارات كثيرة ومكثفة، أهمها أن النظام الدولي الحالي في طريقه إلى الزوال على المدى القريب، أما مسألة تعلق ذلك بالحدث السوري فهي قد تكون أشبه بلغز يكفي أن يفسره أصحاب العلاقة تفسيراً صحيحاً، وأصحاب العلاقة في هذه الحالة هم الأمريكان، وهم قادرون طبعاً على القيام بذلك، فلماذا سورية؟
ينبغي قبل كل شيء رؤية دور الأزمة الاقتصادية الرأسمالية للولايات المتحدة في شن الحروب على بلدان من منطقتنا، ودور الحرب كـ «رئة حديدية للرأسمالية» أي في السيطرة المباشرة على منابع النفط، والحفاظ على تسعير النفط بالدولار، والتحكم بأسعار النفط وبيعه بأعلى الأسعار للمنافسين الكبار والمحتملين، وحماية أمن الكيان الصهيوني، وتغيير الخريطة السياسية للمنطقة بما يتناسب مع المصالح الاستراتيجية الأميريكية، وبما يؤمن التوجه اللاحق نحو المنافسين الجدد الروس والصينيين، وما تمتلك روسيا من ثروات جعلتها جائزة كبرى قد تخرج الأمريكان من الأزمة إذا أمكن الاستيلاء عليها.
فرض المشروع الأمريكي على شعوب المنطقة وعلى البلدان الكبيرة المستهدفة كآخر المحطات، روسيا والصين، مواجهة بمستويات متعددة عسكرية وسياسية واستراتيجية قائمة على تأمين التوازن وكسب الوقت بما يزيد الأوضاع تعقدا على الولايات المتحدة وينهك قواها على الأرض، إلى أن استعصى أخذ المنطقة بالمفرق أي كل بلد على حدة، وبدأت التعديلات التكتيكية على المشروع الأمريكي مع مجيء اوباما إلى الرئاسة الأمريكية وتبني استراتيجية الحزب الديمقراطي التاريخية في أخذ البلدان بالجملة عبر إحياء الصراعات الثانوية بين المكونات ما قبل الوطنية وتفجير المنطقة برمتها، وإذا كان هناك من صاعق لتفجير منطقة الشرق فهو يتمثل بتصفية جهاز الدولة السورية كونه يشكل الحلقة الوسطى في محور المقاومة، وكونه يمسك الكثير من أوراق الصراع مع السياسات الأمريكية- الإسرائيلية، وهذا ما سعت إليه الولايات المتحدة مستفيدة من الأزمة السورية التي تفجرت مع تراجع دور الدولة في الداخل السوري على المستويات السياسية والاقتصادية- الاجتماعية.
يمكن القول إن التدخل العسكري المباشر في سورية كان يعني قيام مواجهة شاملة في المنطقة ووصول الصراع إلى مداه الأقصى، وهذا أمر لم ولن يسمح الروس بحصوله، وهم عند هذا المفصل تحديداً توصلوا للمرة الأولى إلى منعه فعلياً عبر إحداث توازن عسكري وسياسي رادع، وهذا المفصل تحديدا هو بداية تحقق التوازن الجديد على الأرض..
هذا التوازن الجديد هو حصيلة تقدم السياسة الروسية وبلدان البريكس بالنقاط على السياسات الأمريكية التي باتت تسعى إلى الفوز بالضربة القاضية بعد تعثر مخططاتها المرة تلو الأخرة منذ أيلول2001، إلا أن المعركة لا تزال قائمة ولكن المنحى العام للسياسات الأمريكية في هبوط مطّرد..
إذا كانت السياسات الأمريكية تسعى إلى تفجير المنطقة عبر التدخل العسكري في سورية، فإن كل من يدعم التدخل بحالة تراجع سواء في داخل سورية من المتطرفين في المعارضة، أو قوى الفساد الكبير في النظام التي تستجلب التدخل عبر رفع مستوى العنف،وسواء في الخارج كقطر وتركيا. وفي المقابل يتقدم الحل السياسي بعد أن فشل كل طرف في سورية في إسقاط الآخر، الأمر الذي يتطلب المسارعة من جانب الحكومة الجديدة في سورية في فتح الطريق أمام هذا الحل والوصول إلى المصالحة الوطنية على طريق الوصول إلى نظام جديد يزيد من مناعة سورية وقدرتها على مواجهة ما تبقى من المشروع الأمريكي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة..