المصالحة السورية.. بين الوطنية والطوباوية
يقود التفكير المنطقي إلى أنّه من أجل حلّ أيّة مشكلة والخروج منها ينبغي سلوك طريق معاكس لطريق الدخول إليها. وهذا ينطبق على الأزمة السورية، التي لا يعني انزلاقها إلى منحدرات أعمق إلا أنّ الجهد والوقت اللازمين للصعود المعاكس والخروج منها باتا أكبر، أي باتت التكلفة باهظة أكثر على جميع الأطراف.
لا يمكن لأي عاقل أن يصل إلى العلاج الصحيح دون البدء بالتشخيص الصحيح، وعلى الرغم من أنّ تشخيص حزب الإرادة الشعبية والجبهة الشعبية للتغيير والتحرير لأسباب الأزمة ومنذ بواكيرها قد وضع اليد على أسبابها الحقيقية والعميقة اقتصادياً-اجتماعياً وسياسياً، ودعا بناءً على ذلك إلى سبيل واضح لمعاكستها والخروج من الأزمة، إلا أنّ استمرار إنكار أو تجاهل البعض لهذه الأسباب وعدم الاعتراف بالأخطاء الفادحة فيها، أصبح سبباً إضافياً لاستمرار الأزمة وتفاقمها.
رغم ذلك تفرض ضرورات الواقع الموضوعي نفسها على الجميع، فالدعوات إلى المصالحة الوطنية، كبداية للحوار والحلّ السياسي الشامل للأزمة جاءت كطريق إجباري لا بدّ أن تمضي فيه جميع الأطراف بسبب وصول إمكانيات إقصاء أحدها للآخر إلى طريق مسدود. وطرح مهمّة المصالحة الوطنية وبلورة أدوات سياسية لها، كوزارة المصالحة الوطنية في الحكومة الجديدة، يعني قبل كلّ شيء اعترافاً عملياً بجوهر الأزمة ألا وهو التدنّي الكبير في مستوى رضا الشعب عن الطريقة التي يُحكمُ بها، واستياؤه من الأزمة وعواقبها وفشل الطرق المتبعة في التعامل معها حتى الآن، من جانب جميع الأطراف المتشددة، والتي أوصلت البلاد والمواطنين إلى شفير الحرب الأهلية.
«المصالحة» اللاوطنية
إنّ المقاربة الذهنية التي تقف وراء ما يمكن تسميته «خطاب الأزمة»، تكمن خطورتها في أنها عندما تشدّد رسمياً على عزو تعقيداتها إلى مجرّد «أخطاء فردية»، إنّما تتبنّى ضمنياً طريقة «حلول فردية»، لاتتعدى إجراءات بيروقراطية جزئية، قوامها تغيير وجوه ومناصب، دون تغيير جذري بالسياسات، مع الإصرار على الحل الأمني الأحادي. يبدو أنّ البعض في النظام يتصور المصالحة على شكل تنازل من الحركة الشعبية السلمية تقدّم من خلاله اعتذارات وتكتب تعهدات بالتوقف عن النزول إلى الشارع، والكفّ عن المطالبة بحقوقها المشروعة، وتعود إلى بيتها مثل «الطفل الشاطر». البعض الآخر ينطلق من اعتبارات ضيقة ويريد أن يقيم مهرجاناً شكلياً للمجاملات والاعتذارات الكلامية وتقبيل الشوارب واللحى بين الوجاهات التقليدية المترهلة لمكونات المجتمع ما قبل الدولة الوطنية، والتي تعجز عن التعبير عن الهموم السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والوطنية العامّة لجميع المواطنين السوريين دون تفريق. فهكذا شكل من «المصالحة» لا ولن يؤدي إلى الخروج من المستنقع الآسن التقسيمي والطائفي والعنفي الذي تمّ توريط أجزاء من الحراك ومن المجتمع والدولة فيه.
أمّا المعارضة اللاوطنية ممثّلة بمجلس اسطنبول وتوابعه السياسية وأذرعه الإرهابية، فيبدو أنها إذا حدث ووافقت على عنوان «المصالحة»، فإنّ المضمون الذي تريده لها هو أن يتصالح معها الفاسدون داخل النظام والمجتمع ويتوصلوا معاً إلى صفقة يتقاسمون من خلالها نهب خبز وماء الشعب السوري، في ظلّ «ديمقراطية» تتصالح فيها سورية مع أمريكا بأن تركع لها وتعلن حسن النوايا وتزحف لاتفاقيات استسلام لـ «إسرائيل» على طريقة عباس وعبدالله ومبارك-مرسي.
المقاربة الوطنية للمصالحة
إذا كان الواقع يؤكّد على أنّ ما تواجهه سورية هي أزمة وطنية شاملة معقّدة، اجتماعية واقتصادية وسياسية بامتياز، فلماذا لم يرتقِ الخطاب السياسي الرسمي حتى الآن إلى مستوى هذا الواقع؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا بأن هناك ميزان قوى في إحدى كفتيه ثقل لا يستهان به للفساد الكبير والقوى المشبوهة، بحيث ما زالت تستطيع فرض خطابها على المستوى الرسمي وفرض المنطوق الخاطئ حول تشخيص الأزمة، بهدف تبرير الممارسة الخاطئة المعتمدة في الحلّ، فهي لا تكترث بمصير الوطن ولا الشعب، ويسعدها أن تبقى أية إجراءات بعيدة عن المساس بمصالحها وأدوات نهبها وبالتالي أن تبقى إجراءات سطحية ولا إصلاحية.
لذلك فإنّ المصالحة الوطنية ليست عملية معنوية شكلية، بل يجب أن تقوم على تغييرات حقيقة مادية ملموسة وسريعة يلقى العبء الأكبر فيها على الدولة وأجهزتها قبل غيرها لأنها هي من أغضبت الشعب وفرّطت بكثير من مصالحه، حتى فقد ثقته بها، والمصالحة الوطنية تعني استعادة ثقة الشعب بدولته وبنفسه، ولذلك فإنّ برنامج المصالحة الوطنية يجب أن يحقق القضايا التالية:
- إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية الأحداث، ممن لم تتلوث أيديهم بالدم السوري.
- تقديم كلّ من تلوثت يداه بالدم السوري من أي جهة كانت للقضاء، ومحاكمته علناً.
- تهيئة الظروف المادية والإنسانية لعودة المهجّرين، والتعويض لهم، ولجميع المتضررين في مناطق التوتر.
- التحضير للبدء الفعلي بحوار وطني شامل وجدّي للخروج الآمن من الأزمة عبر حلّ سياسي وطني شامل.
- القطع الكامل مع السياسات الاقتصادية الليبرالية، والبدء بمكافحة الفساد الكبير ومحاسبته، ووضع اليد على موارد نهبه لضخّها في اقتصاد وطني يحقق أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية.
وعندما نصل إلى اليوم الذي نرى فيه رؤوس الفساد الكبير تطلّ من أوكارها تحت الضغط وتضييق الخناق عليها شعبياً وسياسياً، وتعلن إمّا استسلامها أو انشقاقها عن النظام الذي سيكون عندئذٍ قد تغيّر وطنياً وجذرياً بحيث لم يعد يحميها، ولن يحمي أمثالها مستقبلاً، عندئذٍ فقط نستطيع أن نقول أنّ «سمك» الإصلاح لم يعد «يباع في الماء»، وأنّ الجهات المختصّة الوطنية قد نجحت فعلاً في القضاء على أخطر عصابة إرهابية، وإرساء الأمن الداخلي الحقيقي الشامل اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وأنّ المصالحة الوطنية بمعناها الاستراتيجي العميق قد أنجزت بحيث يستطيع الشعب السوري أن يعبّئ طاقاته نحو الانتصار في معركة تحرير أراضيه المغتصبة.