عندما يكثر الحديث عن الطائفية..

عندما يكثر الحديث عن الطائفية..

تسعى البرجوازيات في مختلف مراحل هيمنتها السياسية إلى الإبقاء على العديد من التناقضات الثانوية، لدفعها كي تلعب دوراً رئيسياً عند اللزوم، في مواجهة إمكانية طفو التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال إلى السطح، وتختلف طبيعة التناقضات الثانوية بحسب درجة تطور البلد وخصوصيته وتراثه ودرجة الوعي الاجتماعي فيه، 

ولا يمكن قراءة ظاهرة كالطائفية في بلدان العالم الثالث عموما وبلدان الشرق خصوصاً إلا من هذه الزاوية، أي بوصفها أداة للصراع بين البرجوازيات المحلية، أو كإحدى أدوات الحروب الإمبريالية على شعوب تلك البلدان، والشواهد على ذلك كثيرة بدءاً من محاولات الدول الاستعمارية في فترة الاحتلال المباشر تأليب الطوائف على بعضها البعض، بل حتى إنشاء طوائف وملوك طوائف لم تكن موجودة من قبل، وصولا إلى الحروب التي تشنها اليوم الولايات المتحدة الأميركية، والتي تستهدف الدولة كعنصر لعب دوراً في الوحدة السياسية لبلدان منطقتنا، وذلك من خلال إحياء الصراعات الطائفية والعرقية...الخ،

في الشأن السوري، وفي إطار سعي القوى المتشددة في النظام والمعارضة إلى الدفع باتجاه المزيد من التصعيد والعنف، يجري التواطؤ بينهما موضوعياً على طريقة الصراع التي يمكن أن تجمع حولها أوسع القوى، فيقع الاختيار على تسعير الفوالق الطائفية، يجري هذا ضمن مباركة أطراف عربية ودولية، ذلك أن الفالق الطائفي شكل لغماً احتياطياً على مدى ثلاثة عقود على الأقل، أي منذ أحداث الإخوان المسلمين والطريقة التي جرى وعولج فيها ذاك النزاع، أبقي على ذلك الفتيل، طالما أنه يضمن سلطة وتركيبة سياسية محددة، وما وراء ذلك من نمط توزيع ثروة..

يمكن القول بالملموس إن الصراع بين البرجوازيتين الطفيلية والبيروقراطية في سورية، لطالما كان يؤسس لتعميق الفالق الطائفي، وان لم يظهر هذا الفالق على السطح، على الرغم من بقائه موجوداً، في مرحلة تقاسم الحصص الوظيفي بينهما، أي عندما كانت حصة البرجوازية البيروقراطية من ريع فساد جهاز الدولة، وحصة الأخرى من ريع المساعدات والتجارة الخارجية، إلى أن بدأ الدور المزدوج الذي لعبته السياسات الليبرالية الاقتصادية، فهي من جانب طورت وفجرت هذا الصراع خلال سبع سنوات أو أكثر، عندما بدأت قوى الفساد الكبير في جهاز الدولة، التي انتقل قسم هام منها إلى السوق، تزاحم شريكتها على حصتها، وبرز ذلك من خلال «الاقتتال» الذي نشب بينهما، والذي كانت تسرب أخباره تباعاً، حول الاستثمارات الخارجية ووكالات الشركات الأجنبية والعربية، أضيف إلى ذلك بالتوازي النتيجة الأخرى لسياسات الليبرالية، في تفجير الحراك الشعبي الذي سعت كلتا البرجوازيتين إلى الاقتتال في ملعبه، عبر محاولات جعله خزاناً للاقتتال الطائفي في سورية، من خلال الإبقاء على كل أشكال الفرز الوهمي والثانوي فيه، وعلى رأسها الطائفية كأداة للفرز..        

يكثر الحديث في الأسابيع الأخيرة عن احتمال نشوب حرب أهلية في سورية من جانب مسؤولين غربيين وعرب، ومن جانب قوى التشدد في المعارضة اللاوطنية، وهم يقصدون في ذلك حرباً أهلية طائفية، ويمكن اعتبار ذلك تهديداً من جانبهم أكثر من كونه تحذيراً إذا وضع ضمن سياق سلسلة مواقفهم مما يجري في سورية، وليست المجازر التي بدأت كتصعيد جديد إلا خطوة في ذلك الاتجاه، بالوقت نفسه يبدي الطرف المقابل، قوى التشدد في النظام، استعداده لهذا التصعيد من خلال تأخره بالحل السياسي والحوار والمصالحة الوطنية وما يسبقها من خطوات، في حين يظهر الروس والصينيون كأكثر الأطراف توازناً من خلال دعوتهم إلى الحل السياسي للأزمة مع استمرار رفض التدخل الخارجي، أمام كل هذا المشهد، وعلى الرغم من تزايد نشاطهم السياسي تبدو غالبية السوريين رافضة لخيار الاقتتال الطائفي على عكس ما يصور ويدبج إعلامياً، يعود ذلك إلى عوامل موضوعية عديدة، كمستوى التدويل الذي بلغته الأزمة وانحرافها مسارها عن مطالبهم، والتجربة التاريخية المريرة لشعوب المنطقة في الحروب الأهلية والويلات الناجمة عنها، العراق لبنان ليبيا نماذج، وضع سورية الحساس ضمن التوازنات الإقليمية، وإرث الدولة الوطنية السورية وما حققه من عيش مشترك، وعلى الرغم من ذلك لا يمكن نفي وجود قوى طائفية موتورة في سورية تتوق إلى الاقتتال الطائفي، موجودة في جهاز الدولة، كقاعدة اجتماعية لقوى الفساد الكبير في جهاز الدولة، وموجودة في المجتمع، كقاعدة اجتماعية لقوى السوق المرتبطة بالخارج، وهذه القوى تسعى على ضآلة حجمها إلى فرض الصراع الطائفي على باقي قوى المجتمع، ولا يمكن اليوم التصدي لهذه القوى دون الدفع باتجاه المصالحة الوطنية والحوار ونبذ العنف تحت سقف رفض التدخل الخارجي ومحاربة قوى الفساد الكبير وعزلها، فالثنائية الحقيقية، عندما تفعّل بين المنهوبين- والناهبين هي أكبر عدو للطائفية..