تسليح المعارضات.. دعوة إلى الحرب الأهلية
تعالت، في الآونة الأخيرة، أصوات عربية عدّة، رسمية وغير رسمية، تطالب بتسليح المعارضة السورية، وتمكينها من وسائل الدفاع الذاتي في وجه الأجهزة النظامية، وتزايدت وتائر تلك المطالبة بالتسليح حتى حينما أحجم الأميركيون والأوروبيون أنفسهم عن المطالبة بذلك، ونأوا بأنفسهم عن مثل هذه الدعوة، بل وسارع بعضهم إلى التحذير منها مخافة فتح الباب أمام الحرب الأهلية، وزعزعة الاستقرار في المنطقة.
الدعوة خطيرة للغاية، وهي أخطر حين تصدر من عرب، رسميين وغير رسميين، ممن يُفترض فيهم البحث عن الحلول والتسويات، ورأب الشروخ، ووقف حمامات الدم، لا صب الزيت على النار باسم «نصرة الشعب السوري»! وهي خطيرة أكثر حين يكون وراءها رجال دولة، فقد ترد على لسان سياسي حزبي محترف للمضاربات الايديولوجية يروم بها تصفية حساباته مع نظام وحزب يكرههما، وقد ترد على لسان داعية موتور متشوق لرؤية تلامذته في السلطة في بلد جديد. وقد ترد على لسان معارض سوري فقد الأمل في التغيير السلمي، أو لا يتقن من المعارضة إلا فن «العنف الثوري». ثم هي قد ترد على ألسنة متظاهرين تأخذهم الحماسة بعيداً في قول أي شيء. كما هي قد ترد على لسان مثقف تلفزيوني في برنامج مسموم. لكن ورودها على ألسنة مسؤولي الدولة أمر في غاية الخطورة، ومختلف في النتائج.
والخطورة في هذه الدعوة من وجوه عدة أظهرها ثلاثة وجوه:
الوجه الأول منها أنها لا تقترح على السوريين سوى الفتنة والحرب الأهلية، لأن الانقسام الأهلي عميق في المجتمع السوري، والتقاطب حاد بين معارضي النظام ومؤيديه، وحين تتسلح المعارضة أكثر، من سيمنع النظام من أن يسلّح مؤيديه فيفرض معادلة سياسية وعسكرية جديدة على العالم، ويعيد تعريف الأزمة السورية على نحو جديد مختلف عن تعريفها الرائج، اليوم، كأزمة صراع بين نظام ومعارضة؟ أما النتيجة الوحيدة لدعوة التسليح، فهي دفع السوريين إلى مزيد من الاقتتال والإفناء المتبادل. ويا لها من مساهمة عربية عظيمة في «نصرة الشعب السوري»!
الوجه الثاني منها أنها دعوة منحازة إلى جزء من الشعب والمعارضة دون آخر، فليس كل المعارضة السورية، وجمهورها الاجتماعي، يحمل السلاح أو يدعو إلى عسكرة الانتفاضة. إذا كان هذا موقف المعارضة في الخارج، فإنه ليس موقف المعارضة الوطنية في الداخل، ممثلة في «جبهة التنسيق الوطنية» وجمهورها الاجتماعي والسياسي، التي تأسست على قاعدة شعار «لا للعنف»، وعلى قاعدة مدنية الانتفاضة وسلميتها. وعلى ذلك، فإن الدعوة تنتهي إلى «نصرة» بعض المعارضة، وبعض الشعب!
الوجه الثالث من الدعوة، فهو الأخطر: تكريس قاعدة حق المعارضات العربية في التسلح لمواجهة أنظمة قائمة تختلف معها في السياسات! لن يعود هذا الحق محصوراً في المعارضة السورية، وقبلها في المعارضة الليبية، إذا ما وقعت أحداث في هذا البلد العربي أو ذاك، وأدت مصادمات بين القوى النظامية والمتظاهرين إلى سقوط ضحايا. وسيكون هناك، حينها، من سيطلق الدعوة عينها نكاية في هذا النظام أو ذاك: تماماً كما يطلقها اليوم بعضٌ نكاية في النظام السوري. وهكذا تقودنا الدعوة إلى تسليح المعارضة في سوريا إلى دعوة مفتوحة لكل من لديه مظلمة من نظامه ـ وما أكثرها في بلادنا العربية ـ إلى التسلح، أي إلى تحويل السياسة إلى جحيم، والصراع السياسي إلى حرب أهلية!
لكن الأغرب عند أصحاب هذه الدعوة من العرب أننا ما سمعناهم يدعون إلى تسليح الشعب الفلسطيني، الرازح تحت الاحتلال، لتحرير أرضه من الاحتلال، أو حتى للدفاع عن نفسه من العدوان الغاشم، الذي يقع عليه يومياً، من قبل هذا الاحتلال، مع أن قضيته أعدل قضية في الأرض!
ومع أن نصرة هذا الشعب من أوجب الواجبات عليهم، وعلى دولهم، بقوة أحكام قرارات جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، وبقوة أحكام المنظومة الأخلاقية لحقوق الإنسان، إذا لم يكن لتلك النصرة أن تكون بقوة وازع العروبة والإسلام!
من المستغرب أن لا يستحق الشعب الفلسطيني، المحتلة أرضه، والممتهنة كرامته، مثل هذه الدعوة الكريمة إلى التسليح، مع أن تسليحه سيختلف في النتائج عن تسليح المعارضة السورية، على الأقل لأنه بالسلاح لن يصنع حرباً أهلية تمزق الوطن، وتلقي بتداعياتها الطائفية والمذهبية على سائر الجوار العربي الهش في بُناه الأهلية الانقسامية والعصبوية، وإنما هو بالسلاح سيقاتل العدو المشترك أو يدفع غطرسته نيابة عن العرب جميعاً، الذين تتكدس أسلحتهم في المخازن ويأكلها الصدأ! ومن المستغرب أن يدعو من يدعو إلى تسليح المعارضة في سوريا في الوقت عينه الذي يضغط على الفلسطينيين لوقف المقاومة المسلحة، والذهاب في متاهات التسوية السياسية! التسوية بين أبناء الوطن السوري الواحد ممنوعة أو غير مرغوب فيها، لكنها مع العدو مطلوبة ومشروعة. لا، بل هي الخيار الوحيد وإن كره الفلسطينيون. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.